شرع الله الحج على المسلمين ليعرف إليهم بلادهم الأولى، مشرق شمس النبوة، ومهبط الوحي حيث كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل الأمين من عند رب العالمين.
نعم، وجب على المسلم أن يحج بيت الله ليرى بعيني رأسه تلك البلاد المقدسة، التي بعثت أول قبس من نور العلوم والمعارف أضاء العالم، وهو يومئذ يتخبط في لُجَّة من الجهل والضلال والخسران، ونشر على المعمورة ألوية العدل والحرية والسلام في زمان الظلم والأنانية والاستبداد والاستعباد الضارب أطنابه في سائر الأمم والبلاد.
وا أسفاه ألا يمتع المسلم أنظاره بهذه المشاهد المشرفة، ويتعرف إلى هذه البلاد المقدسة، التي تشد إليها الرحال، وتنتهي عندها الغايات والآمال.
يقول الأستاذ محمود إبراهيم طيره : يجتمع المسلمون في مكة، فيتعرف المصريّ بالهنديّ، والشاميّ بالمغربيّ، والحجازي بالأفغانيّ، واليمنيّ بالجاويّ، والنجديّ بالتركيّ، وهكذا تتقارب قلوبهم وإن تباعدت أجسادهم، وتجتمع كلمتهم وإن تفرق شملهم، وتنتظم صفوفهم وإن تبعثرت وحداتهم، فيصبحون على كثرتهم وتعدد أوطانهم، وتباعد بلادهم جسماً واحداً، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائره بالحمى والسهر.
فهناك يجتمع المسلمون من أقاصي الأرض، مزودين بالأموال الطائلة، والخيرات العظيمة، يدرونها على إخوانهم المسلمين وفي هذا من التعاون المبني عليه نظام الكون ما لا يخفى على ذوي الألباب.
لقد شرع الله الحج رياضة للنفس، وتزكية للروح، وصفاء للقلب، وفرصة طيبة للرجوع إلى الله.
فهنالك يجتمع المسلمون من فوق عرفات، أشباه حفاة عراة، قد جردوا أنفسهم من كل نعيم الحياة وزخارفها، واتجهوا إلى الله بقلب واحد، والمقصد الأسمى للجميع واحد، والمكان واحد، والرب واحد، وقالوا كلهم بلسان واحد: الله أكبر، لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وكفـِّر عنا سيئاتنا، وتوفـَّنا مع الأبرار، فيستجيب الله دعاءهم، ويخرجهم من ذنوبهم كما يخرج الطفل يوم ولدته أمه.
يجتمعون هكذا حفاة عراة مجردين من كل نعيم، اللهم إلا من قلب ينبض بذكر الله، ولسان ينطبق بعظمة الباري جل علاه، ليكون هذا الموقف الرهيب تذكيراً لهم بيوم المحشر، كل بنفسه مشغول وبعمله رهين ((يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه)) سورة عبس: الآيات 34ـ37.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار الاقتصادي
وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية