بت أخجل مما أشاهده من مظاهر التضامن الخجولة، وأشكال التأييد الباهتة، وأصوات الغاضبين الخافتة، وعبارات التضامن الفاترة، وخيام الاعتصام الخاوية، فهل خبا التضامن العربي والدولي مع قضايا ومطالب الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين المضربين عن الطعام في السجون الإسرائيلية لليوم الثالث والثلاثين على التوالي، وضعف الإيمان بعدالة قضيتهم وأحقية مطالبهم، وخلت الشوارع والميادين من المؤيدين لهم والخائفين عليهم، إذ أن الحملات الشعبية قد تراجعت، والضغوط الدولية قد غابت، ومساعي المؤسسات الأممية قد تجمدت، وبات خبر الإضراب متأخراً، وتغطيته عابرة، وكأنه خبرٌ مكررٌ ممجوجٌ، وتفاصيلٌ معادة غير مهتمٍ بها، وقد لا يصغي المتابعون للخبر ولا يولونه اهتماماً، وكأنه لا يهمهم أو لا يعنيهم، ولا يصنف ضمن أولوياتهم أو في صدارة اهتماماتهم، فهناك ما يشغلهم ويهمهم أكثر منه.
أم أن المتضامنين قد ملوا وتعبوا، وأرهقوا واستنزفوا، وبذلوا أقصى جهودهم وغاية طاقتهم، ولم يعودوا قادرين على فعل المزيد وابتداع الجديد، أو الخروج إلى الشوارع والميادين، والاعتصام أمام المؤسسات الأممية والبعثات الدولية، فقد استغرق الحدث وقتهم واستهلك جهدهم، وشغلهم عما يهمهم محلياً وصرف أنظارهم عما يعنيهم دولياً، ولم يعد في مقدورهم عمل ما هو أكثر والقيام بما هو أفعل، فغاية جهدهم اعتصامٌ أو مسيرةٌ، ورفع رايةٍ أو تعميم شعارٍ، أو رسم صورةٍ وتعليق كلمة، أو المشاركة في برنامج أو الإعداد لمشروع، وغير ذلك مما التزم به المتضامنون في نهاية دوامهم أو في أوقات عطلتهم الرسمية، ومع ذلك فإن المشاركة محدودةٌ، والحضور بسيطٌ، والتغطية الإعلامية قليلة.
أو ربما أن المتضامنين قد يأسوا من الاستجابة الإسرائيلية، وأيقنوا أن الأبواب موصدة، والفرص قليلة والاستجابة معدومة، وسبل الحل مقطوعةٌ، وأن حكومة الاحتلال قد صمت آذانها عن كل نداءٍ أو اعتراض، فهي ماضية في صلفها، ومستمرة في سياستها، ومتعنتة في قراراتها، وأن أحداً لن يجبرها على التراجع أو يلزمها بتغيير سياستها والقبول بمطالب الأسرى وشروطهم، فهي في سياستها سيدة وفي قراراتها مستقلة، فهل شعر المتضامنون بعدم جدوى جهودهم، وعدم فعالية مشاركتهم، فآثروا الصمت والانكفاء، والتراجع والانزواء، بدلاً من أن تضيع جهودهم، وتحبط نفوسهم، وتنعكس النتائج التي خرجوا ينادون بها ويطالبون بتحقيقها.
في حين يرى آخرون أن جهودهم التي يبذلونها تضيع هدراً ولا تؤتي نفعاً، ولا تغير واقعاً ولا تبدل حالةً، فهي أشبه ما تكون بالصرخة في وادٍ، التي لا تعود بغير الصدى، فقد أصم المجتمع الدولي أذنيه وأبدى عجزه، وتغاضت عواصم الدول الكبرى عما ترى وأظهرت انحيازها، وآثرت الصمت وعدم التدخل أو الضغط على حكومة الاحتلال لتتراجع عن سياستها، أو تلين في مواقفها، وتستجيب لمطالب الأسرى المحقة والإنسانية، والتي لا تتعارض مع القوانين الدولية، وتستجيب لشرائع حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف المختلفة، ما جعل المتضامنين يشعرون بيأسٍ يملأ قلوبهم، وإحباطٍ يسيطر على نفوسهم مما يرونه من مرض المجتمع الدولي وشذوذ قيمه واختلال معاييره واضطراب موازينه.
قد يكون الآخرون على حق عندما يبررون تراجع تأييدهم، وانكفاء جمهورهم، والإحباط الذي يسيطر على نفوسهم، بأن الفلسطينيين أصحاب القضية وأم الولد غير متفقين فيما بينهم، وغير متحدين في كلمتهم، ولا متعاونين في حملتهم، إذ لا تتكامل جهودهم، ولا تتناسق أعمالهم، بل تتعارض فعالياتهم، وتتناقض أنشطتهم، ويعمل بعضهم عكس الآخر بقصد الإفشال وإظهار الضعف، في حين أنهم كانوا أدعى إلى الوحدة والاتفاق، والتعاون والتنسيق، خاصةً أن الأسرى في سجونهم متحدين، وفي إضرابهم منسقين ومتجانسين، ولا خلافاتٍ بينهم، ولا منافساتٍ بغيضة تبرز فيهم، حيث أن قيادتهم واحدة، والمفاوضين باسمهم ونيابةً عنهم يعبرون عن الجميع بلا استثناء بلا محاباةٍ ولا مفاضلةٍ أو مزايدة.
للأسف إن الأسرى والمعتقلين لا يملكون عصا يجبرون بها الآخرين على التضامن معهم، والخروج في مسيراتٍ أو مظاهراتٍ تأييداً لهم، وقد لا يجدون ما يدفعون به أمتهم وشعوبهم للتضامن معهم والانتصار لهم سوى الإرادة الصادقة التي يملكونها، والعزم الشديد الذي يميزهم، والإيمان بعدالة قضيتهم الذي يسيرهم، وبشاعة الصور التي تنقلها وسائل الإعلام عنهم، وسوء المعاملة التي يتعرضون لها على أيدي أعدائهم، والحرمان الذي يقاسون منه نتيجة سياسة السجان وعدوانية الاحتلال، وغير ذلك مما دعاهم للثورة والغضب والإضراب والاحتجاج، وهو ما يصرون على التخلص منه وعدم السماح لسلطات السجون بالعودة إليه مهما بلغت التحديات وكثرت التضحيات وعظمت في طريق مقاومتهم الصعاب.
إنه شعورٌ محزنٌ حقاً وإحساسٌ مؤلمٌ صدقاً عندما يستجدي الأسرى والمعتقلون أمتهم لتغضب، وشعوبهم لتثور، وأحرار العالم ليقفوا معهم، ويؤيدوا مطالبهم، وهم الذين ضحوا نيابةً عن الأمة، وقدموا أرواحهم في سبيل قضيتهم وفداءً لشعوبهم، وفرطوا بشبابهم وسني أعمارهم الذهبية لتحيا أمتهم بعزةٍ وتعيش بكرامةٍ، فلا أقل من أن نكون معهم أوفياء ولهم سندٌ وعونٌ، خاصةً أن معركتهم مهما طالت بالنسبة لهم فهي بالنسبة لغير المضربين عن الطعام قصيرة، وما هي إلا أيام وتنقشع الغمة، وتزول الغمة وينتهي الإضراب ويحقق الأسرى مطالبهم ويصلون إلى مبتغاهم، وينالون مناهم، فلا نيأس لينتصروا، ولا لنضعف ليقووا، ولا نشعر بالإحباط ليبقى الأمل في نفوسهم قائماً وفي قلوبهم عامراً.