"علمنا إشارة فإذا صار عبارة خفي" أَبُو عبد الله أَحْمد بن عَطاء بن أَحْمد الرُّوذَبَارِي
إن لغة الإشارة هي لغة الخطاب الرئيسية على الصعيد الأفقي كما على الصعيد العمودي، أو قل إن شئت، إن لغة الرمز هي وسيلة التواصل بين المخلوقات كما هي وُصلة الحديث بين الخالق و المخلوق كما بين العبد و سيده.
قد يبدو هذا الطرح على اطلاقه مجرد اطلاق الكلام على عواهنه، في حين أنه بتدقيق مجهر البحث على مختلف وسائل التواصل الكونية نجد لغة الرمز و الإشارة حاضرة بقوة، بل قل هي الوحيدة الحاضرة كوسيلة تخاطب بين مختلف الكائنات، لكن بتجليات متعددة، ابتداء من لغة التواصل الجسدي الى لغة التواصل الروحي.
في حديثه عن العلامة كمرادف للرمز و الإشارة يتحدث آرثر ايزا برجر في كتابه النقد الثقافي بنفس المنطق فيرى أنه "من الغريب عند التطرق إلى هذا الأمر أن نعرف أن العلامة تترك لمفسرها أن يقدم جزءا من معناها، إلا أن تفسير هذه الظاهرة يكمن في حقيقة أن الكون بأسره و ليس مجرد الكائنات التي تعيش به و لكن الكون كله بكائناته كجزء منه و الكون الذي اعتدنا أن نشير اليه بالحقيقة –أن هذا الكون مليء بالعلامات إن لم يكن يتكون بالكامل من العلامات"1.
من هنا يستنتج المؤلف حتمية التخاطب الاشاري عند الانسان فماهي التجليات الاشارية على مختلف تواصلات هذا الانسان سواء مع بني جنسه أو مع غيره من الكائنات أو مع خالقه و بارئه؟
بملاحظة مجهرية لأشكال التواصل الإنساني نجد أنها تتدرج في سلم ترقٍ، درجاته احداها فوق الأخرى، ابتداء من التواصل السلبي في أقبح السلوكات اللاأخلاقية اعتمادا على الرموز التي يعتمدها اللصوص و مهربو المخدرات و الجماعات المحظورة كالماسونية و غيرها، يرى آرثر ايز برجر في كتابه نقد الثقافة أن "ظواهر نقابلها في حياتنا اليومية مثل الباروكة ( الشعر المستعار ) و الشعر المصبوغ و الحذاء ذو الكعب العالي و الأغذية المقلدة ومقلدي الشخصيات و الدجالين و المحتالين فكل هذه الأمور تشمل الكذب باستخدام الإشارات أو العلامات".2.
منتقلين بعد ذلك الى درجات وسطى من مقامات الفهم الاشاري في حياتنا اليومية متمثلة في العلاقات الجسدية في إطار الزواج بين الأزواج وما يتخلل طريقها من رموز عرفية لا بد من سلوكها للتعبير عن الرغبة في العروس فإلى ابداء إشارة امتلاك العروس بخاتم الزواج، و إلى مختلف القوانين المنظمة لحياة الانسان ليحيي حياة طيبة كقانون السير و قانون الأحوال الشخصية و لغة السياسيين... الخ.
فإن رقى الانسان في فهم لغة الإشارة من مستواها المادي الى مستواها الروحي صار ينتقل بذكائه الروحي من فهم لإشارات الشريعة في مستواها البسيط الى مستوى أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما و قعودا، فلا يفهمون من رؤية الهلال الرمضاني مثلا فقط مجرد الانقطاع فقط من شهوتي البطن و الفرج من طلوع الشمس الى غروبها، بل يفهمون منه في مستوى أرقى أن المقصود منه أيضا تعليمنا الانقطاع عن شهوتيهما ( أي البطن و الفرج ) في المسلك الحرام من طلوع شمس الوحي على القلب عند التكليف فإلى غروب نهار الحياة بالموت التي هي إشارة الى انتهاء مرحلة تكليف الانسان.
صيامي هو الإمساك عن رؤية السوي * * * وفطري أنى نحو وجهك راكع.3.
يفهم ذو اللب أيضا من الأذان مثلا ليس فقط دعوة للصلاة بل دعوة لفلاح زرعه كمؤمن وصفه الحق بأنه كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى بشربه لماء التوحيد من ذكر للقرآن الكريم يتخلل آنية الصلاة التي تمتلأ خمس مرات في اليوم بواحة المسجد و كذا تلعب رياض الجنة من مجالس الذكر نفس الدور لامتلاء آنية القلب.
ينهل أولو النهى أيضا من نفس المشرب فلا يفهمون من السجود خلال الصلوات الخمس مجرد سجود شكلي للاله بقدر ما يرتقون لاصطحاب حال خضوعهم القلبي خلال الصلاة في سائر يومهم فيتحققون بالسجود القلبي و هم في سائر تقلبات حالاتهم اليومية من ارتباطات مهنية و اجتماعية و عائلية.
أقوم أصلي أي أقيم على الوفا بأنك فرد واحد الحسن جامع
و أقرأ قرآن حسنك آية فذلك قرآني إذا أنا راكع
و أسجد كي أفنى و أفنى عن الفنا و أسجد أخرى و المتيم والع
و قلبي مذ أبقاه حسنك عنده تحياته منكم إليكم تسارع.4.
يقصد أصحاب الحصافة والحكمة الى أن الحج في الشريعة ليس هو الانتقال الجسدي الى ديار المحبوب بقدر ماهو هجرة قلبية الى الله و رسوله منذ دخول الإسلام فالى الانتقال الى الدار الأخرى، و كأن الحج الظاهري مجرد عربون محبة على ذلك الحج الروحي الذي عقد عليه المسلم العزم منذ الخطوة الأولى في الطريق الروحي للإسلام "فمن كانت هجرته الى الله و رسوله فهجرته الى الله و رسوله و من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه" حديث متفق عليه يفهم مغزاه العميق على أنه دليل على أهمية الحج الروحي في القيمة على مجرد الحج المادي و إن كان الثاني فرض كعربون على المحبة الصادقة التي غرست في القلب عند أول الطريق و لا بد له منه لتحقيقه فلا روح بدون جسد، لكن حجًا للجسد مع غفلة الروح مجرد سفر سياحة ليس إلا.
أيا كعبة الآمال وجهك حجتي * * * وعمرة نسُكى أنى فيك والع
وتجريد نفسي من مخيط ثيابها * * * بوصل وإحرام عن الغير قاطع
ويلتز منى أنى أدلك مهجتي * * * لما منك في دار من الحسن مانع
كأن صفات منك تدعو إلى العلا * * * فرت بقلبي فاستبانت شو اسع
فتركى لطيب النكاح فان ذا * * * صفاتي وذا ذاتي فهن موانع
وإعفاء حلق الرأس ترك رئاستي * * * وشرط الهوى أن المتيم خاضع
إذا ترك الحجاج تقليم ظفرهم * * * تركت من الأفعال ما أنا صانع
وكنت كآلات وأنت الذي بها * * * تصرف بالمقدور ما هو واقع
وما إن جبري للعقيدة إنني * * * محب فنى فيمن حوته الأضالع
فها أنا في تطواف كعبة حسنها * * * أدور ومعنى الدور أنى راجع
ومذ علمت نفسى طوافك سبعة * * * فا عداد تطوافى في جمال سوابع
أقبل خال الحسن والحجر الذي * * * لنا من قديم العهد فيه ودائع
ومعناه أن النفس فيها لطيفة * * * بها تقبل الأوصاف والذات شائع
واستلم الركن اليماني إنه به * * * نفس الرحمن والنفس سالع
واختم تطواف الغرام بركعة * * * من المحو عما أحدثته الطبائع
ترى هل لموسى القلب في زمزم اللقا * * * مراضع لا حرمت تلك المراضع.5.
و كذلك سائر الشعائر غير مقصودة لذاتها و إنما هي محطات بنزين روحي للتزود في الطريق بماء المحبة الى حين بلوغ المراد و لا منتهى
فإذا بالفناء قد كان وهما.:. قد عراني كسائر الأوهام
فأراني بأنني كنت غيرا .:. و تحولت بعده لمقامي
و انا لست في الحقيقة غيرا .:. أو للغير دونكم من قيام
حكمة الشرع اثبتتني لما .:. سمت الكون كله باسامي
و نفى جملتي انفرادك بالذات .:. والأفعال والنعوت العظام
و إذا كنت في الحقيقة فردا .:. استحالت حقائق الأنام.6.
لا يكفي المقام هنا لسرد كل حالات الارتقاء في فهم لغة الإشارة و الرمز الذي يُخاطب به المكلف من طرف الحق و يتواصل به العبد مع خالقه و يتبادل بنو البشر رسائلهم من خلاله مع بني جنسهم بل مع سائر المخلوقات.
و خير ما نختم به هذه التدبرات في تجلي الاشاري على وجهي الحياة مدنسها و مقدسها، يحضرني قولان بليغان لمفكرين من حضارتين مختلفتين تجمعهما لغة الروح أحدهما آرثر أيز برجر الفيلسوف الأمريكي صاحب كتاب النقد الثقافي الذي يذهب إلى أن عالم اللسانيات بيرس يبرهن على أن علم الإشارات بالغ الأهمية لأن الكون في حقيقته و كنهه ما هو الا نظام للإشارات فكل شيء يمكن رؤيته على أنه يعتمد بطريقة أو بأخرى على شيء آخر يوضح معناه و لذلك فهو يعمل كإشارة أو رمز.7. و ثانيهما العارف بالله الصوفي الشاعر عبد الغني النابلس الذي له شعر بديع فيما نرمي إليه من معاني:
من الجسوم الى الأرواح إسرائ فيه لمثلي إشارات و إيماء
فاسجد له سجدة من مسجد حرمت جهاته منه للأملاك لألاء.8.
التعليقات 1
1 pings
طالبة باحثة
17/04/2017 في 2:01 م[3] رابط التعليق
كلمات من ذهب خالص.دمت متالقا ??
(0)
(0)