يا بُني.. لقد وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا.. وأقف على أعتاب بداية النهاية. فالاحتمال الوحيد الذي لم ولن يحدث هو أنني وغيري سنعيش للأبد، وإنما يتحقق الاحتمال القائم بواحد صحيح لا يقبل أي نسبة شك أن كل مخلوق على وجه الأرض سائر إلى عالم آخر لا عمل فيه، وإنما حساب وبعده إما ننصرف الى مستقر رحمة الله عز وجل، وإما الي مستقر عذابه في سقر وقد وصفها الله بأنها لا تبقي ولا تذر، صرفنا الله عنها بعفوه وكرمه. ولا يمكن لبشر أن يجزم أنه سيعيش برهة وقد كثر فينا موت الفجأة.
فهل شمرت عن نفسك ونفضت عنك غبار الغرور وطول الأمل بأن في الحياة بقية؟.. ولا تدري أين ومتى الرحيل لعالم البرزخ.
يا بُني اكتب وقلبي موجوع موجع ، منفطر آلما وحزنا وقد اعتراني الهم والغم.. يتساقط دمعي حرا.. على زهرات شباب يلقي بنفسه بآتون النار في الدنيا والآخرة فلا حصل خيراً في إحداهما والآخرة خير وأبقى.
يا بُني.. ثلاث لابد وأن تستقر في ذهنك : أنه لا نجاة من الموت ، ولا راحة في الدنيا ، ولا سلامة من كلام الناس .. فإن ضاقت بك الدنيا فاقرأ ما تيسر من كتاب ربنا ففيه شفاء للناس.. فقال ربي جل وعلا (( طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2).. ويقينا سيأتيك الفرج من الله علما ورزقا وفهما ويسرا. فبعد العسر يسر كما وعدنا ربنا ((فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.. فلا تركن لشيطان نفسك ولا تطعه واسجد لربك واقترب..واذرف دمعك ندما على ما فات من ارتكاب الآثام والآفات..
يا بُني .. ألم تسمع قول الله عز وجل (( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127).)) فما كان من ضنك الحياة إلا بكثرة الذنوب والمعاصي.
يا بُني : إن لم ترضى بقضاء الله وتشكر له نعمائه التي أنعم عليك بها فلتخرج من تحت سماؤه ولتبتغي رباً سواه ، وما أظنك بقادر على ذلك ..فلما التمادي في المعاصي، واعلم ((يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (( فلا يغرنك بالله الغرور ، فالأيام تمضي سراعا ، وبدت ملامح الساعة على أرض الواقع حقائق واقعة ..فعلاما أنت في نفور وسفور.
يابُني : صادق الصالحين الطيبين الذين يتقون الله فيما يقولون ويفعلون وخالطهم لعلك بمفازة من الخير فهؤلاء لا يشقى جليسهم، ولعلك بهم تهتدي وتعود إلى الله فتأمر نفسك بالمعروف وتنهاها عن المنكر ، بعد أن تذوق حلاوة الإيمان والعيش في كنف الرحمن .(( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) (17:لقمان)
يا بُني : الهمة ..الهمة ..ألا تحب أن تكون ممن يحبهم الله ورسوله لأنهم يكدون ويكدحون ليأكلوا من كسب أيديهم.. متوكلين على الله فهو رازقهم ويعلمون أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. ولا يسألون الناس شيئاً لكى لا تسود وجههم بالمسألة، راضين بما قسم الله لهم ولا ينظرون ما بيد الآخرين، فالناس إن أعطوك كان المن عليك هما وغما لا يفارقك ، وإن منعوك دخل صدرك منهم حسداً وغلا..فاذهب لعمل تقتات منه لنفسك ..ولا تحقرن عملاً مهما كان إلا أن تعمل فيما حرم الله .
يا بُني : لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك، احتقاراً منك لهم واستكباراً عليهم، ولكن أَلِنْ جانبك وابسط وجهك إليهم، لا تتكبر فتحتقر عباد اللّه وتعرض عنهم بوجهك فينفضون عنك ولا تجد لنفسك صاحباً أنيسا صديقاً مخلصا.
يا بُني : لا تجلب على نفسك سخط الله إذ أنت تهين والداك ، ولا ترعى فيهما إلا ولا ذمة وتذكر أمك حملتك شهورا جنيناً، وآهاتها الممزوجة بالفرحة لحظة ميلادك، ودقات قلبها تسرع بها للهلاك وتمزقها آهاتها إذ أصابتك عِلة ويجافيها النوم ساهرة تدعو ربها أن ينجيك ويحفظك لها، تناجي ربها أن لا يُكلمها فيك ولا ترى ما يؤذيك.
يا بُني : اتقك الله حق تقاته ، واعلم أنك واقف أمام ربك وقد أخذت كتابك وقد عد عليك ربك كل فعل وقول أنت آتيه... فماذا أنت قائل؟
الهمة الهمة يا بُني ... فر بنفسك إلى الله ..وقم ضارعا بين يديه مناجيا : يارب اقبل توبتي واغسل حوبتي وآمن روعتي ، وارزقني حسن الطاعة ونور في البصيرة والبصر ونجني من السوء
واستغفره إنه هو الغفور الرحيم ...وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد النبي الأمين وآله وصحبه وسلم.
د . رضا عريضة
مستشار أكاديمي بجامعة الإمام محمد بن سعود