راق لي أن أكتب في العمل التطوعي بعد قرأتي لما كتبه الصديق العزيز الدكتور زيد الرماني الخبير الاقتصادي بجامعة الإمام محمد بن سعود عن الفوائد الإيمانية للعمل التطوعي ...وأبدا بقصة قصيرة لعل فيها الفائدة والشاهد على أن البداية دائما من الأسرة ثم البيئة الاجتماعية بعدها كالمسجد والمدرسة والجمعيات الخيرية ذاتها.
والقصة :أثناء الحرب على غزة الحرة (2008م ) وذات يوم تفقدت صديقي (أبو أحمد) وقد كان بيننا موعد للقاء بعض الأصدقاء ، فقيل لي من أهل بيته أنه طلب أن يرتدي صغيره محمد ملابس للخروج معه لمكان ما. وبعدها سوف يأتي إليك.. ومرت ساعتين واتصل بي صديقي لنتقابل فطلبته أن يأتيني بالبيت بعد أن اعتذرت لبقية الأصدقاء.. وصل أبو أحمد لبيتي، فبادرته متسائلاً عن السبب الذي من أجله اضطررت للاعتذار للأصدقاء عن اللقاء الذي يجمعنا في متنزه شهير بالقاهرة. فأجابني وعلامات الحزن الشديد تكسو وجهه والكلمات تخرج من فيه مصحوبة بحشرجة مع بريق دموع في عينيه تدل على أن شيئاً ما يؤلمه ..وقال : ما رأيته بالأمس من مآسي تحدث لإخواننا في غزة خاصة النساء والأطفال ، دفعني للتفكير طويلا لماذا نحن هكذا وحكي لى سهده طوال الليل بسبب فظائع الصهاينة ضد أهل غزة ، ثم استطرد لينهي ما بدأه أنه قرر أن يأخذ معه صغيره محمد ( 5 سنوات) ويذهب به لمقر الهلال الأحمر الفلسطيني بالقاهرة وقد فتح باب التبرع لمساعدة إخوتنا في غزة ،فأثنيت على فعله ، متسائلا عن سبب أخذه لصغيره محمد ، فقال : يا أخي نحن نخطئ كثيراً عندما لا نشرك أبناؤنا في عمل الخير .. وأحببت أن يقدم صغيري محمد بنفسه المبلغ المالي لمتلقي التبرعات وأن يتسلم بنفسه الإيصال منه ليعرف قيمة هذا العمل وليتذكر دائما في كبره أنه شارك إخوانه في غزة ولو بقدر يسير من المال وذلك في يوم ما عندما يكبر ويقلب في أدراج مكتبه ويقرأ الإيصال ، ثم انتقل صديقي للرفيق الأعلى ، ومرت سنوات ، وذات يوم كنت في ميدان الألف مسكن بالقاهرة ، وقفت أمامي سيارة كبيرة لنقل الأغراض وأعلاها مجموعة من الشباب أعمارهم ما بين 17- 25سنة ،وإذا بأحدهم يناديني ( عمي رضا ) فنظرت إليه قائلا ( بتعمل إيه يا محمد مع الشباب ) تبسم قائلا: ( إحنا أعضاء في جمعية رسالة ) واليوم بنجمع الملابس التي تبرع بها بعض الناس وسوف نذهب بها إلى المغسلة ثم نقوم بكيها وتصنيفها لتوزع على أصحاب النصيب . فتبسمت دامعاً متذكراً والده رحمة الله عليه. وقلت في نفسي هنيئا لك أبا أحمد فيما سعيت إليه ، كبر محمد والتطوع في الخير تأصل فيه واصبح عضوا بجمعية خيرية يمارس فيها العمل التطوعي لبعض الوقت ..هنيئاً صديقي بحسنات تأتيك وأنت هناك في عالم البرزخ ...تركت الولد الصالح وصلاحه يلحق بك ....
الشاهد فيما رويت من قصة.. أن سلوك العمل التطوعي أو المعاضدة الاجتماعية أو المساعدة يمثل الأفعال التي يتم التعهد بها لمصلحة الآخرين، وهو أحد الأشكال الإيحائية من السلوك التي تتضمن إفادة الآخرينالتي تتراوح من المساعدة بأشكالها المتعددة والكرم والإيثار والتعاون.. إلى مجرد التعاطف أو الاستدلال الأخلاقي.
وبناء عليه فإن أغلب الإيثاريين أحد الأبوين (عادة الأب) يعتبر "نموذجا" للقيم الإيثارية، وعلى استعداد للسير في طريق مساعدة الآخرين الواقعين في مأزق ومن المحتمل أن يكون للنموذج الذي هو في وضع قوة وسلطة بالنسبة للطفل تأثير أكبر فى الطفل من تلك النماذج التي لا تملك القوة أو السلطة. وبالمثل فالنموذج الذي يقدم الدفء والاهتمام بالطفل سيكون أكثر تأثيرا. ولا داعي للقول بأن النماذج التي لا تكتفى بتقديم الوعظ والإرشاد، بل وتمارس الإيثار سيكون لها تأثير أكبر.
وإذا كان معيار المسؤولية الاجتماعية يفترض أن علينا دوما تقديم المساعدة لمن هو فى حاجة إليها بصرف النظر عن إمكانية ردها في المستقبل فإعطاء نقود لمستجد فى الطريق هو مثال على هذا المعيار.
فإن المعيار الديني المستمد من جزء في آية كريمة (( ...... وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ )) 158 البقرة (( فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ)) 184البقرة. يؤصل بداخلنا الدافع للتطوع للعمل الخيري أيا كان وفي أي مكان ووفق طاقتنا فالمردود من بعده عظيم عظيم لأن الله عزل وجل هو الكريم في عطاءه فشكر الله لعباده لا يمكن يتصوره عبد مهما كان علمه، فلنتذكر مثلا دخلت امرأة بغي الجنة لأنها سقت كلباً، وأخرى دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ..
فاذهب عزيزي القارئ واقرأ وتأمل التفسيرات المتعددة لقول ربنا عز وجل: ((مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾). [سورة البقرة الآية:261].
د . رضا عريضة
مستشار أكاديمي بجامعة الإمام محمد بن سعود