من أقرب صور التعصب داخل الأسرة التي يتشربها الأبناء من خلال الوالدين صورة التعصب الرياضي لنادى رياضي معين ( الهلال ، والنصر ـ الأهلي , الزمالك مثلاً ) فحسب ما جاء في دراسة قام بها كاتب هذه السطور وجد أن وصف الأب بالتعصب جاء في ملمحين أولهما التعصب للنادي الذي يشجعـه بتكرار ( 231 مرة ) وكذلك الأم بتكرار ( 141 مرة ) . وثانيهما أن الأب متعصب لرأيه فقط بتكرار ( 212 مرة ) وبالتالي فهو لا يناقش أراء الآخرين بتكرار (212 مرة) .لعينة من المراهقين قوامها 300مراهق.
فالتعصب هو استبداد بالرأي، ورفض للرأي الآخر، وبما أن الرفض هو عدم الاعتراف بحق الآخر في الوجود، وبرأيه، فالتعصب ديكتاتورية واضحة، والدكتاتورية تتصف بالتسلط، وتتصف التسلطية بالعدوان فمعظم الأشخاص الذين يتصفون بالسلوك التسلطي كانوا في طفولتهم خائفين من والديهم، وغاضبين منهم وعلى ذلك يفترض أنهم يظلون غير آمنين ويتمسكون بالعدوان ككبار، فقد أثبتت الدراسات السيكولوجية أن الاتجاه التسلطي يرتبط بالتعصب. كما أن القهر الاجتماعي هو الآخر من أحد أهم مكونات التعصب والعنف ليس للفرد فحسب بل في المجتمع أيضاً إذ أن مسألة الازدراء والسخرية والاستهزاء بالشخصية خصوصاً بين الأطفال والشباب أو حتى في الأسرة الواحدة كفيلة بأن تزيد في الفرد روح العنف والحقد والكراهية واستخدام القوة للرد ورفع القهر الناتج عن الاستهزاء. والقهر الاجتماعي لا يتوقف عند السخرية والاستهزاء بل يتعدى ذلك ليأخذ أشكالاً أخرى متعددة فمنها عدم المساواة الشخصية بين الذكور والإناث أو الأشقاء الذكور، والنبذ الاجتماعي واغتصاب الحقوق وعدم العدالة في بعض المواقف التربوية الأسرية كلها عناصر مولدة للعنف والعدوان الفردي والاجتماعي.
ومن خلال استعراض لبعض النتائج التي توصلت إليها العديد من الدراسات العربية في محيط التنشئة الاجتماعية ، وجد أن الأسرة العربية ، مازالت تتبع الأسلوب التسلطي المتسم بالعنف المعنوي (الشتم والقذف ) وفى بعض الأحيان العنف المادي ( الجسدي ) وهو ما عبر عنه الأبناء (بأنهم يشعرون بالسعادة والراحة عندما يكون آباءهم خارج المنزل ) فقد عبر ( 69% ) من طلاب العينة في استجاباتهم بأن الآباء يفرضون عليهم تصرفات تتفق مع وجهة نظرهم – أي الآباء – ويدعم هذا ما تشير إليه موافقة 60% من أبناء العينة بأن الآباء يهتمون ويركزون على أخطاء الأبناء أكثر من الاهتمام بتصرفاتهم الصحيحة ويزيد من تدعيم وجود التسلط كأسلوب تربوي يمارس الآباء أن 55% من أفراد العينة يعاقبون بعنف وقسوة من آبائهم في حالة ارتكابهم أي خطأ , وكانت الملامح السلبية لصورة الأب التي تدعم ذلك مثل ( سرعة الغضب 219 مرة , عصبي جداً ونرفوز 270 مرة ) , لا يفكر قبل العنف معنا ( 164 مرة ) , يثور بسرعة ( 111مرة ) وكذلك كثير الشتم ( 251 مرة ) وتضخيم المواقف التافهة ( 198 مرة ) . وكلها ملامح تعبر عن أن أسلوب التسلط هو الغالب على الأساليب التربوية الأخرى لدى الآباء .
ولعل فيما سبق يفسر لنا جانبا من ظاهرة استمرار وجود المراهقين خارج المنازل ( تجنب الآخر الوالدي المتسلط : مثلاً) لأوقات متأخرة من الليل قد تصل إلى ما قبل الفجر في صورة شلل تجوب شوارع الأحياء والعاصمة ولكل شلة أو جماعة (غير منظمة ) سلوكيات معينة فمنها التسكع في الطرقات والسخرية من الآخرين واختراق حالة الهدوء في البيوت بالصراخ والعويل (دون أدنى مبرر ) , وأخرى ترتكب سلوكيات منحرفة (معاكسة الجنس الآخر – السرقة – تدخين وتعاطي المخدرات .. الخ ) وغيرهم يمضي معظم فترات الليل في أندية ( نت كافيه ) . مما يوحي لنا بأن المناخ الأسرى أصبح يمثل عامل طرد غير معلن لفظا للأبناء، بمعنى أن قوة العلاقات وتفاعلها الإيجابي ودفئها وحميميتها بين الوالدين والأبناء داخل الأسرة أخذت في الضعف، وهو مـا يطلـق عليـه ( الأسرة الفارغة ) .. وهو ما ينبغي أن ندق له ( ناقوس الخطر ) , ولا نقف عند قول البعض أنها أفعال صبيانية سرعان ما تزول عندما ما يكبر الأبناء وينهون تعليمهم ويصبحوا رجالاً يعملون ليتزوجوا ( بُكرة يجيلهم الهَمْ اللي يشغلهم ) . وإلا ما تفسير هؤلاء لانتشار جرائم العنف العائلي ( من الأبناء تجاه الوالدين ) . وما تفسير الاحتياج الشديد لإنشاء مؤسسات رعاية المسنين ( آباء وأمهات ) بعد أن ازداد تنكُر وجحود الأبناء للآباء .. وهو ما كان يعتبر شاذاً في المجتمعات العربية، حيث كانت الرحمة والرأفة ورد الجميل بالرعاية والحنو عليهما ( وتقبيل اليد حبا وكرامة ) وغير ذلك من السلوكيات المعبرة عن قوة الالتصاق بالرحم وكانت تمثل القاعدة (التي انقلبت ) .
لذا فإن التعامل مع المراهقين والمراهقات يحتاج إلى حكمة وصبر , لأنهم مع رغبتهم في إثبات ذاتهم واستقلالها ورفض للسيطرة يكونون غير مؤهلين لذلك سواء معنويا أو ماديا , وهو ما يوقعهم في الأخطاء التي إذا انتقدوا بسببها من الآخر /الآخرين ، زادت عزلتهم عمن ينتقدهم وشعروا بالإهانة والإحباط مع مشاعر سلبية نحو من كشف عجزهم وقصورهم أن يكونوا مستقلين , لذا فإن الآباء الأذكياء هم الذين يحققون المعادلة الصعبة , بإعطائهم الإحساس بالحرية في التصرف الذي يشعرهم بذواتهم مع التوجيه غير المباشر لتلافى حدوث الأخطاء قدر الإمكان ولا يكون ذلك إلا بصيغة الصداقة والحوار والتفاهم ( إن كبر ابنك خاويه ) . فالمراهق يراقب التغيير في سلوكياتنا نحوه ويختبر مدى جديتها ، وهل نحن فعلا صادقون فى احترام ذاته ؟ هل نحن فعلا صادقون في الحوار معه والوصول إلى النتيجة المرجوة من خلال التفاهم؟ إذا أدرك صِدق ذلك تقدم خطوة نحونا ونحو الخروج من عالمه الخاص إلى عالمنا .
وقد روي عن بعض السلف : لاعب ابنك سبعاً، وأدبه سبعاً، وآخه سبعاً، ثم ألق حبله على غاربه.وإن كان ترك الحبل على غاربه في حاجة لإعادة النظر ..
د . رضا عريضة
مستشار أكاديمي بجامعة الإمام محمد بن سعود