▪ قبل أن ترسل أبناءك غدًا إلى المدرسة، في بداية عام دراسي مكرور، دعني أسألك أخي القارئ: لو خُيِّرت بين مدرسة تُقدِّم لهم تعليمًا جيِّدًا، وإنْ بدرجات منخفضة، وأخرى تمنحهم درجات ومعدلات عالية، ولكن بتحصيل علمي منخفض! فأيّ الخيارين ستُفضِّل؟
كل الآباء تقريبًا سيختارون الخيار الثاني بلا تردد، فهو الأكثر واقعيَّة وعقلانيَّة.. لأنَّهم يعرفون أنَّ واقعنا يتمحور حول الدرجات والتقدير، لا حول التعليم والتحصيل! وحتَّى إنْ ظهر لديهم قصور تعليمي، فبالإمكان تداركه فيما بعد، لكن ما لا يمكن تداركه هو تلك الدرجة السيئة التي قد تُغيِّر اتجاهات حياتهم بصورة كبيرة.. لذا سيكون من الغباء جدًّا تفضيل الخيار الأول الذي يبدو مثاليًّا أكثر من اللازم!.
▪ لاحظ أننا عندما نرسل أطفالنا إلى المدارس، فإننا نثقلهم بأحمال لا تنتهي من الرغبات والأوامر، بل والتهديدات بالحصول على أعلى الدرجات، وشهادات التفوق، وإشادات الأساتذة.. لأن تلك الدرجات لا تُقيِّم أبناءنا فقط، بل تُقيِّم دورنا نحن الآباء أيضًا ونجاحاتنا معهم!. ورغم أننا ندرك أن هذا ليس له علاقة بالبناء التعليمي والذاتي لشخصياتهم، إلاَّ أنَّنا من النادر جدًّا ما نزعج أنفسنا بالتساؤل: هل يتعلَّم أبناؤنا في مدارسهم فعلاً؟ هل يتلقّون المعارف والمهارات المناسبة لشخصياتهم وقدراتهم، أم إنهم يذهبون للمدرسة بحكم العادة فقط، ولمجرد الحصول على الدرجة التي تضمن لهم الالتحاق بالكليَّة التي نحلم، ونتباهى بها نحن الآباء؟!.
▪ لا شكَّ أنَّ أنظمتنا التعليميَّة (العام منها والعالي) التي تقوم على التنافسيَّة (العمياء) هي المسؤول الأوّل عن شيوع هذا الفكر الخاطئ، حتَّى وإن بدت اختبارات القدرات والتحصيلي تعاكس هذا المفهوم وتكبحه، إلاَّ أنَّها هي الأخرى رضخت أخيرًا لهذا التوجّه حين أصبحت فنًّا يُدرَّس، ويمكن التحايل عليه، والحصول على أعلى الدرجات، بل وأصبحت مجالاً للتربح تُجنَى من ورائه الأموال الطائلة! ولو كنا نريد التعليم للتعليم حقًّا؛ لصممنا أنظمة تراعي اهتمامات الطلاب الخاصة، وتحترم قدراتهم ورغباتهم وميولهم التعليمية، ويتم فيها تجريب مسارات تعليمية متنوعة تهتم بالتكوين المعرفي، وتقوم على الفكر التعاوني بين الطلاب بدلاً من التنافسي، وهو ما يحدث بالفعل في بعض المدارس التي يكون هدفها الأول هو التعليم وليس الدرجة.
▪ تحسين الأداء لا يمكن أن يحدث نتيجة لزيادة الضغوط على الطلاب. صحيح أنَّ التنافسية والتقييم مطلوبة في التعليم، لكن ليس للحد الذي يُشكِّل ضغوطًا نفسية يعتقدون معها معظم الطلاب أنهم أغبياء.. وأظهرت دراسة نشرتها النيويورك تايمز قبل فترة أن الأطفال (الموسرين) الذين يتعلمون في منازلهم بشكل هادئ ومريح يتعلمون بصورة أفضل وأسرع من نظرائهم في المدارس بنسبة تجاوزت 40%، وترجع الدراسة السبب لكونهم تخلَّصوا من الضغوط التنافسية اليوميَّة والتقييم المستمر في المدارس والشعور بالإحراج والخوف من الفشل الذي يؤدي لصعوبة تعلُّمهم في المدرسة.
▪ بالعودة إلى السؤال في بداية المقال؛ وفي ظل وضعنا التعليمي المقلوب يصبح من التغرير والغش أن أنصحك بالخيار الأول.. لذا يبقى الحال على ما هو عليه إلى أن يُقيِّض لنا لله أنظمة تعليميَّة تقوم على التنافسيَّة في التحصيل، وليس في الدرجات.