أثارت الانتحارات العلنية والمتزايدة في إيران موجةً من المخاوف والقلق لدى عامة الناس، وتحولت إلى تحدٍّ جاد لمسؤولي وزارة الصحة الإيرانية، إذ يظهر كل يوم نبأ منتحر في صدر وسائل الإعلام، مما تسبّب في إثارة الذعر العام.
الاستعراض السريع لنهج هذه الانتحارات يظهر أن أغلبها تقع عن طريق إلقاء الشخص نفسه من ارتفاع، وما يلفت النظر هو السن المنخفضة للمنتحرين، فيكون أغلبهم في عمر الشباب.
الانتحارات المتكرّرة
في أواخر شهر أبريل/ نيسان 2016، شنق رجل نفسه فوق جسر المشاة في شارع ميرداماد طهران، ووقعت الحادثة في ذروة حركة الناس والسيارات في هذا الشارع، ليشاهد موته الکثیرون.
أصيب الناس بالصدمة من الانتحار العلني لهذا الرجل، وتداول نشطاء الشبكات الاجتماعية صورته المشنوقة، لينتشر خبر جديد يوم 1 مايو/أيار أن رجلاً انتحر بإلقاء نفسه من الطابق الثالث لمستشفى الميلاد في طهران.
وقوع هذين الحادثين خلال 3 أيام أثار تساؤلات وحيرة الناس في إيران، ليصل خبر آخر أن فتاة تبلغ 18 سنة، ألقت نفسها من جسر “ولاية” في شارع “نيايش”.
هذه الحوادث حوّلت شهر مايو/ أيار الذي يعرف في إيران بأفضل شهر وأجمل أيام السنة، إلى كابوسٍ لعديد الأسر.
بدأت مناقشات في الشبكات الاجتماعية، وكان الناس يحكون عن قلقهم العميق حيال تكرار هذه المشاهد في الأماكن العامة، إذ أعلن مسؤولون لرعاية الرفاه والخدمات الاجتماعية أنهم أنقذوا – عبر المشورة والنصيحة – مئات الأفراد الذين كانوا على وشك الانتحار.
إحصائيات مشكوك فيها
ودفع القلق العام واتصالات الصحفيين، منظمة الطب القانونية الإيرانية، إلى عرض إحصاءات الانتحارات، وأعلنت هذه المنظمة أن 4020 إيرانياً انتحروا في عام 2015، حسب وكالة الأنباء “إيسنا” الرسمية.ئ
وتحاول وزارة الصحة تقليل المخاوف العامة بمقارنة أرقام هذا العام بالعام السابق، وادعت أن أرقام الانتحار في هذا العام انخفضت مقارنة بالعام السابق، إذ أن عدد حالات الانتحار عام 2015 كان 4095، مقابل 4020 منتحراً عام 2014، وهو ما يعني انخفاضاً بنسبة 1.8%.
والذي يشاهده الناس، خاصة في طهران، هو ازدياد عدد المنتحرين في الأماكن العامة، ويعتقد الناس أن هذا تهديدٌ جدي للمجتمع. وإن كانت وزارة الصحة تحاول أن تخفف مخاوف الناس في طهران أيضاً بمقارنة الإحصائيات، إذ كانت أرقام الانتحار في عام 2015 في طهران 386 شخصاً، وفي عام 2014 كان عددهم 447 حالة انتحار.
وما يزيد الأمر تعقيداً انخفاض سنّ الانتحار، فعام 2015 سجل رقماً قياسياً في انتحار شبابٍ أعمارهم أقلّ من ستة عشر عاماً.
ووفقاً لمقارنة عرض الإحصائيات الرسمية، وتحليل الخبراء فإن أغلب حالات الانتحار كانت بسبب المشاكل الاقتصادية والنفسية. فحسب ما قالته وكالة الأنباء “إيلنا”، فإن المشاكل المالية والاكتئاب من الأسباب الأساسية للانتحار في إيران.
وفي هذه الحال أعلن وزير العمل والشؤون الاجتماعية أن 5 ملايين من سكان إيران على وشك الإصابة بسوء التغذية، وكذلك فإن 95% من الشعب الإيراني يجاهدون لتأمين سبل العيش، ويعانون من المشاكل الصحية لعدم اهتمامهم بها.
ونقل كاظم ملكوتي الطبيب النفسي والأستاذ في جامعة الطب الإيرانية بحثاً منذ سنتين، أشار إلى أنه من كل 100 ألف من سكان إيران، فإن 6 منهم يلقون مصرعهم بالانتحار.
المترو ثم الجسور
وفي غضون ذلك لم يزل علماء الاجتماع في البحث عن أسباب وأبعاد الانتحار، وقعت حادثة انتحار أخرى وسط مشاهدة الناس، الذين زاد فزعهم من هذه الظاهرة.
ففي ليلة 16 مايو/ أيار 2016، ألقت فتاة بالغة من العمر 24 سنة بنفسها عن جسر الاستقلال في شارع هنكام طهران.
يعتقد خبراء الاجتماع أن الناس في طهران لا يحققون أهدافهم ولا يجدون لها سبلاً، لذلك يعتبرون الانتحار آخر حلٍّ لهذه المشاكل، ويلجؤون إلى الانتحار في المشهد العام. وفي هذه الأيام تحولت جسور المشاة إلى أماكن جديدة للانتحار،لأن من أربع حالات انتحار وقع ثلاث منها في جسور عابري المشاة.
قبل سنوات قليلة اشتهر مترو طهران بأنه المكان المفضل للانتحار، ومن كثرة حالات الانتحار أمام المترو، طلب مدير المترو، محسن هاشمي، في ذلك الحين ألا تنتشر حالات الانتحار هذه عبر وسائل الإعلام، لتخفيف المخاوف.
كان انتحار شاب بالغ من العمر 17 سنة في محطة باب الحكومة من الانتحارات المرة أمام المترو الذي أوقف حركة المترو مدة 10 إلى 15 دقيقة، واختل خطه.
وبعد المترو الواقع تحت الأرض، بدأ الناس في طهران يختارون مكاناً جديداً للانتحار، والذي يتمثل في جسور المشاة أثناء عبور الكثير من الناس عليه.
يقول خبير الاجتماع، رابرت مرتن “يختار الناس في كل زمان وحسب الظروف الاجتماعية مكاناً خاصاً للانتحار، وسبب اختيارهم الأماكن العامة أنهم يريدون أن يعلنوا احتجاجهم، وهو ما كانت تقوم به فتيات بريطانيات في القرن ال17 عبر إغراق أنفسهن في النهر.
وعلى هذا، فإن مكان الانتحار يتعلق كثيراً بنوع الاعتراض الاجتماعي، والذين ينتحرون في أماكن معينة وفي لحظات معينة، يريدون أولاً أن يحتجوا على الظروف والأوضاع الاجتماعية، ومن ناحية أخرى يريدون أن يعلنوا أنهم معترضون على الظروف الصعبة غير المسبوقة للمعيشة التي تعقد يومياً في طهران ويزداد كل يوم المشردون في معابر البلد.
وإن كانت بلدية طهران قد أقامت بعد أسبوع من الانتحار الأول في شارع ميرداماد، لوحة إعلانية على الجسر مكتوب فيها المعاني المرتبطة بالحياة، إلا أن رفع الشعار للحياة لم يغير شيئاً من المفاهيم، بل قضى بعد قليل اثنان من المواطنين على حياتهما بإلقاء أنفسهما من هذا الجسر.
تحولت الانتحارات في جسر المشاة إلى موضوع أساسي لأغلب نشطاء شبكات التواصل الاجتماعية، ويخافون من أن يشاهدوا بأنفسهم حالة الانتحار عند عبور من هذا الجسور.
ليست طهران فقط
وليست طهران المدينة الوحيدة التي ينتحر الناس فيها بإلقاء أنفسهم من العلو، بل انتشرت أخبار عن انتحار طالبة بالغة من العمر 12 سنة بإلقاء نفسها من الطابق الرابع يوم 17 مايو/أيار 2016.
ويذكر في سبب انتحار هذه البنت الذي كان موضع سؤال الكثيرين، أنها استبعدت من المدرسة لمدة معينة بسبب فعل خاطئ عوقبت عليه، فانتحرت خوفاً من عقاب أبيها.
لكن لم تكن آخر حالة انتحار في إيران تؤثر في الناس سلباً، إذ انتشر مرة أخرى بعد يوم خبر انتحار طالب في جامعة سمنان بنحو مشابه.
وهذا الطالب كان في قسم الماجستير في اللغة الإنجليزية وآدابها في جامعة سمنان، وانتحر يوم الأربعاء 18 مايو بإلقاء نفسه من الطبقة الرابعة في كلية العلوم الإنسانية.
وتداول نشطاء الشبكات الاجتماعية نبأ انتحار الطالب في الماجيستر كثيراً، الأمر الذي جعل إدارة شؤون التعليم والتربية لمحافظة خراسان تناقش الأمر. ثم وصل خبرٌ آخر في يوم 19 مايو/ أيار، مفادُه أن امرأة انتحرت في الطريق السريع لكرج – طهران.
وبهذا الترتيب يصبح معدّل الانتحار في إيران حالة تُتابع بشكلٍ شبه يومي، ممّا يزيد من مخاوف وحيرة الناس.