يملك الإنسان مخزوناً من الأفكار والمشاعر التي تستوطن في عقله وقلبه ولا يعبِّر عنها إلا بالنطق أو الحركة (الإيماء ) أو بالكتابة التي تكتسب سمة البقــــاء ، فالكتابـــة فـــنٌ يقـــوم على أسلوب التعبيــر المتميـــز الذي يترجـــم أحاسيس الكاتــب ويعكس صورة نفسيته من خلال تفاعل ذهني تحققه حروف صور ناطقة تحمل في طياتها إشعاعات الفكر وخلجات القلوب .
لذلك قيل في الكتابة : بأنها تحقق انعتاق الكاتب ، فهي المنفس الوحيد الذي يتخلص فيه الكاتب من همِّه الكتابي فتتحررفيه أفكارُه وعواطفُه من سجنها لتنطلق في فضاءات التجلِّي تعبر عنه بكل شفافية ، ولا يتم ذلك إلا عبر استكشاف وسائلَ وأدواتٍ للتعبير عن هذا الهمِّ عن طريق حديث نفسي مرسلٍ تتم فيه محاورة الأشياء العابرة والحالات الراهنة في لحظة الكتابة وهذا ما نسمية (اللحظة الذهنية )التي تتجاوز كل حدود الوعي الزمني .
بينما يرى البعض الآخر بأن الكتابة هي تكفير عن خطيئة مؤجَّلة ، إذ يحاول الكاتب أن يلقي بهمِّه الكتابي على فعل الكتابة الذي يمنحه القدرة على التعبير والمساءلة حتى الوصول إلى مرحلة الخلاص من خلال كلمات قليلة تحمل المعاني الغزيرة التي يبوح بها الكاتب عن مشاغله النفسية وقلقه الوجودي وحيرته ليتجه في النهاية إلى الحلِّ بصورةٍ تأمليةٍ ترقى إلى مستوى السُّمو المعرفي الذي يسيِّـج وجودَه .
ولو تتبعنا التطور الذي حصل للفعل الكتابي لوجدنا أن الكتابة تحمل هدفها بذاتها من خلال إبداع الكاتب الذي تتفجر عبقريته لتترجم معانا ته ، ولكن هذا الإبداع يواجه التحدي الأكبر الذي يشكله الصِّدق والشفافية في التعبير وطرح الأفكار:
يقول أدونيس (هل على الكاتب أن يمارس الكذب أم عليه أن يقول الصدق ؟ ولكن أليس الصدق أحياناً نوعأ من الموت؟ ).
وهنا تتجلى مسؤولية الكاتب حيث تلقى على عاتقه مهمة قرع جرس الخطر دون تلكؤ ولا تباطؤ ولا استمهال ولا تأجيل وأن يتحلى بالجرأة ،والانطلاق في أفق الحرية الذي يمكنه من ممارسة الإنتقاد الموضوعي البنَّاء البعيد عن سلوك التهجُّم والقذف وكيل الاتهامات ورفض الآخر رفضاً مطلقاً.
وأن يستند على ثقافة فياضة وعلى سعة صدرٍ وقدرة على الحوار وتقبُّل الرأي الآخر من أجل الوصول إلى تبنِّي فكرة جلية واقعية تحمل في ثناياها ما يساهم في بناء مجتمعٍ متحضرٍ ذهنياً حرٍ فكرياً.
ولكي يحقق الكاتب مرتبة ًمتقدمةً في عالم الفكر عليه أن يمارس فعل الكتابة لأنها موهبة كالرياضة تحتاج إلى المتابعة والتفعيل والتواصل المستدام بين الكاتب ونتاجه الكتابي وجمهوره ، فلا هجران ولا انقطاع حتى لو اضطّر للكتابة ولو بشكل بسيط كل يوم من خلال تدوين (خاطرة أو خلاصة تجربة أوأبيات شعر أو مثل أوقول مأثوروقع في نفسه موقع الإعجاب ، فلا يعوِّد قلمه على الكسل ، ولا يحرمه من أن يرتوي من مداد الفكر ويوشِّي قرطاسه بأفانين الإبداع لأن الكتابة أمانة ومسؤولية.
ولكي يكون الكاتب فارساً في ميدانه لا يشق له غبار لا بدَّ من أن يعدَّ نفسه الإعداد السَّليم القادر على حمل الرسالة وتأدية الأمانة ، فيُلِم بأساسيات الكتابة ومقوماتها اللغوية والثقافية والفكرية ليقف على أرض صُلبة يحقق من خلالها المتعة التي يروي بها ظمأ نفسه الشغوفة من ناحية ،ويؤدي رسالته التي يؤمن بها من ناحية أخرى ،وعليه أن ينوع في كتاباته حتى لا يقع في حالة الملل والضجر بل ينتقل بين رياض الفكر والثقافة التي تقدم المتعة والفائدة لتبقى طاقته متجددة وروحه وثابة نحو كل جديد ، وأجمل ما تشهده صفحات الكتابة ما كان تعبيراً صادقاً عن تجربة شخصية قد عاشها الكاتبُ وترجمتها بصدق حروفُه المبدعة بأسلوبٍ أخَّاذٍ وبيان ٍساحرٍ ومنطقٍ واقعي ، لأنها ستبقى في سجله خالدةً موشاةً بأزاهير المعرفة معطّرة بشذا الثقافة والإبداع مؤكدة المقولة التالية : (الحرف لا يموت بعد موت صاحبه ،والكتابة تخلِّد ذكر صاحبها ).
لذلك علينا أن نكون فرسان كلمة في ميادين الفكر والثقافة ، نحرر كلماتنا التي تحمل معاناتنا من سجن الظلمة المقيدة بالخوف كي تعانق بهاء الشمس في وضح النهار.