ها أنا أتخيله وأراه في موقعه منهمكا في عمله كعادته وكلما رفع رأسه وأبصر من أمامه تبسم .. !
وهكذا هو ، وتلك طبيعته ، فنادرا ما غابت البسمة عن محياه، ولم أرها تفارقه إلا قليلا ، في حالات الحسم، والمهمات الجسام العاجلة..!
إنه الجبل الأشم الذي تدثره الزهور !
نعم .. هو جبل لا تغيره السنين ولا توهن من رسوخه الحوادث والليال.
وإن من بين الرجال من يكون أشبه حالا بالجبال في سيرته وسلوكه وطبيعة حياته ؛
فالله سبحانه وتعالى قبل ان يجعل في الأرض خليفة هيأها للحياة ولخلافة الإنسان وأرساها بالجبال وثبتها وجعلها في مدار لاتفارقه وفي مسار لا تنحرف عنه، فلا تطيش في الفضاء ولا تفقد التوازن ولا تخل بالسباحة في الفلك! وسبحان من قال : (والجبال أوتادا) ؛
ومن بيئته خاض الإنسان مسيرة الحياة، واخذ من طبيعته العبر، وحاكى فيها أناقتها واخذ من وجهها الجميل وعف عن القبيح وانتقى من حسنها أبدع الصور !
ومن خيراتها أطايب الثمر .
ومن بيننا رجال خاضوا الحياة عظاما ، لا يفتر لهم عزم ولا يلين لهم حزم، ومضوا تحف مسيرتهم الفصائل وتدور حولهم أكرم المناقب والقيم.
أتحدث يا رفاق الحرف.. عن رجل ليس كغيره من الرجال ، وليس غيره كمثله..!
لا يشبه أحدا وليس يشبهه أحد .
عاصرناه وعرفناه..
ولعلي أكثر من اقترب منه، ولعلي أكثر من ابتعد !.. فرأيته من بعيد وعرفته عن كثب!
سمعت عنه فترات ابتعادي، فأشتفت إليه. وحين عدت إليه صادقت بمرآي على كل ماسمعت، واوردت فؤادي على حياض حبه ، فسقيته حتى تضلع!.
وهكذا لم ينثن عن عظمته في كل حال، فالجبل هو الجبل والشموخ هو الشموخ والقمة العالية كما هي لا تدنو في حضور أو غياب!
منذ سنوات طوال عرفته بوجه وقور، وهيئة منضبطة، وشخصية تفرض على من يراها احترامها، وكنت في مقتبل حياتي العملية وحتى قبل ذلك. ومن محياه رسخت في عيني سمات الوقار وتلك الشخصية الحكيمة في شبابها، وبقيت اعمل في محيطه ، مرات لا ابتعد .. وتحت إدارته مرات لا انفك عنه، وهكذا أمضيت ربع قرن وأنا أتأمله!
لأنحت صورته في خيالي على صخور العظمة والكبرياء، وتستقر على صفحات قلبي محبته، ويقيم أمام ناظري مثالا شامخا للنبل والآباء واللباقة والثبات.
وهبنا من حياته مالم يهبه حتى لأبنائه، وعاش معنا ولنا أكثر مما عاش لنفسه وذويه.. وأينما حل احتوى الجميع ، واحتضنه المكان بحب وشغف.
في إدارته كان للجميع مدرسة، وفي الأزمات ملجأ وملاذا، وفي سيرته قدوة عظيمة وأسوة حسنة، وكان ولايزال رجل العطاء وصمام الأمان والتوازنات.
وهو من نسج لصحة جازان استر لباس وأجمل الحلل وطرزها من حرير قلبه،
وحملها على عاتقه وكتفه ، وأينما وجد انتشلها وعبر بها نحو الأمان والريادة ؛ يخوض في عمق الاعاصير ثابتا ولا يهاب، ولا يضعف ولا يتنصل! ولا يفر في محنة ولا يتراجع عن الأقدام، ولا يفتر دون هدف نبيل او ينكمش عن بلوغ غاية! عاش الحياة بكل أطيافها وألوانها وما صبغته ولا غيرت ملامحه أحبوه فبادل محبيه الحب والوفاء، وظلموه فزادهم العطاء، واتهموه وتخلوا عنه فتبسم في وجه زمانه وما تقهقر ولا انكسر!.
سلب الألباب بحكمته وحنكته، فجاء من الخلق من نقم عليه لتفوقه ونجاحه، فأعلن التسلط والحرب عليه ، حين رأى في مهارته خسرانه وافتضاح أمره وكشف وضاعة أدائه وضحالة خبرته!.. وبدلا من ان يدنيه أقصاه ،وأعماه حقده فجار عليه ،ويوم حاك مؤامرة إقصائه توهم انه بذلك قد كسر همته وعزمه ونفاه! وما خطر لذلك المتسلط انه يضرب الصخر برأسه ، ويكسر قرنيه في مناطحة جبل أشم لا يدك، ورجل كالغيث أينما حل نفع الله به.!. وهناك من منفاه عزف الحان السمو ، وداعب أوتار الريادة وغنى أعذب مواويل المهارة في الأداء ،وفاض من ينابيع الفضائل والخلق النبيل حسن السيرة والمعاملة، ومضى شامخا ثابت العزم والمبادئ والقيم! وخاب من ظنوا انهم قد كسروه.. وتالله بل ازداد صلابة ولم ينكسر!.وعاد شامخا من (الرياض)، وهالات الحب والإجلال والاحترام تحيط به وتدور حوله وتضيء في سمائه. وحل هاهنا في (المرتكز) ، وعاش بطل التوازنات.ولا يزال بلسما يطبب الجراح، وما برح كأعذب العيون وأغزر الينابيع فيضا لكل من جف ريقه وسقيا رحمة لكل ملهوف أنهكه العطش ؛.
فإن ناديت في الناس (قاسم).. فليس كل من أجابك "قاسم"!.
حلف الزمان ليأتين بمثله
حنثت يمينك يا زمان فكفر.
حسين عقيل