يبدأ علم الاقتصاد بفرضية هى أن كل السلوكات الإنسانية عقلانية، وبالطبع فإن هذه الفرضية ليست دائماً صحيحة بمعناها الحرفي، فمعظمنا يستطيع أن يذكر استثناءات من بين أقرب الناس إليه.
بيد أن صحة الفرضية على نحو حرفي لا تعد شرطاً أساسياً للبحث العلمي، فمثلا إذا سألت عالم فيزياء كم من الوقت تستغرقه كرة البولينج لتهبط إلى الأرض إذا ألقيت بها من فوق سطح بيتك، عندئذ سيفترض مبدئياً أن بيتك قائم في الفراغ، ثم يبدأ بعد ذلك في إجراء الحسابات ليصل الى الجواب الصحيح.
وإذا طلبت من مهندس أن يتنبأ بمسار كرة بلياردو ضُربت من زاوية معينة، فإنه سيفترض مباشرة عدم وجود ما يسمى الاحتكاك، وإذا سألت عالم اقتصاد أن يتنبأ بالآثار المترتبة على ارتفاع قيمة الرسوم المفروضة على مبيعات البنزين، فسوف يفترض أن كل الناس عقلانيون ويمنحك جواباً أقرب ما يكون إلى الدقة.
ومما سبق نرى أن صحة الفرضية لا تقاس بلفظها وإنما بطبيعة نتائجها، وعلى ذلك المعيار يكون للعقلانية سجل جيد من النجاحات.
لذا ، تفترض العقلانية أن الناس يستجيبون للتحفيز، وهي مقولة تؤكدها كثير من الشواهد القوية، وتفترض أيضاً أن استعداد الناس لدفع المزيد في مقابل علبة كورن فليكس وزنها أكبر من استعدادهم لدفع المزيد في مقابل علبة وزنها أقل ، وأن العمال المهرة سيكسبون عادة أكثر من زملائهم الذين تعوزهم المهارة ، وأن الأفراد المحبين للحياة لن يلقوا بأنفسهم من فوق جسر ، وأن الطفل الجائع سوف يملأ الدنيا صراخاً ليعلن عن احتياجاته، كل هذه الأشياء عادة صحيحة.
وعندما نفترض في الناس العقلانية، فإننا بذلك نتجاهل تماماً ميولهم، والمقولة اللاتينية ((إن أذواق الناس لا تخضع للمنطق)) إذ هي إحدى شعارات عالم الاقتصاد.
إذن ، كيف نتعامل مع هذه الظواهر؟ إن الإجابة المنطقية هي أن نقول: ((لا يتصرف الناس بعقلانية طيلة الوقت، إنما في معظم الأحيان، ومبادئ علم الاقتصاد لا تنطبق على جميع التصرفات، إنما على بعضها، وتلك بعض الاستثناءات)).
أو هناك حل بديل، هو أن نتشبث بذلك الوهم الذي يفترض أن كل الناس يتصرفون بعقلانية طيلة الوقت، وأن نُصِر على ايجاد تفسيرات عقلانية - مهما كانت شاذة - لكل هذه التصرفات التي تبدو غير عقلانية.
إن كثيرا من المجتمعات الزراعية البدائية تشترك في صفة غريبة؛ فبدلاً من أن يمتلك المزارع الواحد قطعة واحدة واسعة من الأرض، تجده يمتلك عدة قطع صغيرة من الأراضي الزراعية المتفرقة في أنحاء القرية. وقد دار جدل طويل بين المؤرخين حول أسباب هذه الظاهرة التي يعتقد أنها السبب وراء الكثير من أوجه القصور، ومن الاحتمالات المطروحة أن يكون الميراث والزواج هما السبب، فمن جيل إلى آخر يجري إعادة تقسيم قطع الأرض التي تملكها العائلة بين الورثة، فتتحول إلى قطعة صغيرة، ثم تأتي مسألة الزواج، فتزداد قطع الأرض المملوكة للعائلة الواحدة تباعداً وانتشاراً. تعرض هذا التفسير لنقد شديد، فهو يقدم صورة من صور اللاعقلانية، إذا لم لا يتبادل المزارعون قطع الأرض فيما بينهم بصورة دورية بحيث يدمجون ممتلكاتهم ويعززون من قوتها؟
لقد جذبت هذه المشكلة اهتمام عالم الاقتصاد والمؤرخ دون ماكلوسكي الذي يتمتع بقدرة فطرية متفردة على ابتكار التفسيرات الاقتصادية العبقرية، فبدلاً من أن يسأل: ((أي العادات الاجتماعية أدت إلى هذا السلوك غير العقلاني؟)) طرح ماكلوسكي سؤالاً آخر، فقال: ((لماذا يعد هذا السلوك عقلانياً؟)) وأوصلته الدراسة المتأنية إلى نتيجة هي أن هذا السلوك نوع من التأمين، فمثلاً في حالة حدوث فيضان في القرية، يتعرض المزارع صاحب قطعة الأرض الكبيرة للتدمير الشامل لممتلكاته، ولكن بتوزيع هذه الممتلكات، فإن المزارع يضحي ببعض الزيادة المحتملة في الدخل في مقابل أن يضمن ألا تمحى ممتلكاته تماماً بفعل كارثة ما. إن هذا السلوك لا يعد سلوكاً شاذاً، وإنما كل أصحاب العقارات المؤمن عليها في عصرنا الحالي ينهجون النهج ذاته.
إن الكثير من السلوكات التي يعتبرها الآخرون أمراً مسلماً به تثير حيرة علماء الاقتصاد.