ربما كان العنوان صادماً للكثيرين، لكنه لن يكون صادماً أكثر من الواقع الذي نعيشه اليوم، والذي تجسد في جسد طفل برئ يطفو على سطح الماء قبل أيام، هذا الطفل الذي فارق "مماته" إلى "حياته" عندما فارق المعاناة التي كان يعيشها إلى حياته الكريمة عصفوراً وسط الجنان عند أرحم الراحمين، حتى أنه لم يحرجنا بنظراته وهو يفارق هذه الدنيا وهو يدير وجهه لنا عتباً على أمة لم يستطع أحد فيها إيقاف معاناة هذا الطفل وأقرانه من الأبرياء الذين يتساقطون كل يوم، ولعله كان يتمنى أن يعامل ولو حتى مثل الخروف "المخلص" الذي قرر الجيش البريطاني قبل عدة أيام ترقيته إلى رتبة رقيب بدلاً من عريف تقديراً لجهوده التي بذلها طوال فترة خدمته بالإضافة إلى تلقيه زيادة في الراتب السنوي !
وقد تزامنت هذه الصورة المفجعة لهذا الطفل رحمه الله وما رافقها من صدمة عالمية مع تدفق الآلآف من أبناء الشعب السوري لأوروبا في هجرة غير نظامية للبحث عن حياة كريمة لهم ولعائلاتهم، وهم لا يلامون في ذلك حتى لو هربوا إلى الجحيم بعد أن أغلقت في وجوههم كل سبل الحياة الكريمة.
وقد انبهر الكثيرين بقيادات الدول الأوروبية وكم هم "حنونين" على الشعب السوري ورائعين في التعامل معه، وكيف أن الشعوب الأوروبية قد أظهرت من التحضر وفنون الرقي في استقبال اللاجئين وإيجاد سبل العيش الرغيدة لهم، لكن السؤال هو أين كانت هذه المواقف الأوروبية طوال أربع سنوات ذاق فيها الآلآف من أبناء الشعب السوري الويلات والجحيم، أم أن شاشات التلفزة الأوروبية لم تكن تنقل لشعوبها من بلاد الشام سوى المسلسلات وعروض الأزياء؟
وكالعادة انبرى كثير من "المبهورين" بالغرب للدفاع عن الغرب الرائع المتحضر، وكيف أن جميع الدول العربية والاسلامية جاحدة ولم تستقبل لاجئاً سورياً واحداً، وكأن الأردن التي استقبلت ما يزيد عن المليون لاجئ وأعلنت في بداية هذا العام الدراسي عن إعفاء 140 ألف طالب سوري من الرسوم وأثمان الكتب "كمثال فقط" ليست موجودة في خارطة عقول هؤلاء، ولا لبنان التي أصبحت تزدحم بعدد مماثل من السوريين اللاجئين فيها.
رحم الله حامل راية النصر "إيلان" والذي لم يغرق هو ورايته التي يحمل اسمه معناها فقط، فالأمة بأكملها غرقت في غياهب الضياع وإستجداء الغرب منذ أن سمحت لنفسها بمشاهدة الدماء تسيل كالأنهار وسط بساتين الشام وأنهاره ولا أحد منها يستطيع إيقاف تدفقها منتظرة الحلول من الآخرين.
واليوم يقف الغرب الذي كان متفرجاً طوال السنوات الأربع الماضية عاجزاً عن إيجاد حل للأزمة السورية موقف المنقذ الأكبر، متناسياً أن هناك الملايين من المشردين والغارقين في الجرائم والمآسي من الشعب السوري وقبله الشعب الفلسطيني، والذي استقبل اليوم خبر وفاة والدة الطفل الدوابشة الذي قضى ووالده حرقاً بيد المجرمين من المستوطنين الصهاينة ولم يحرك الغرب "الحنون" حينها ساكناً.
لكن الدعوة اليوم هي إلى التفكير فيما يدور حولنا بشكل أعمق، فمناصرة "إيلان" وغيره من الأبرياء رحمهم الله أجمعين لا تكون ببطولات الفيسبوك والتويتر، وإنما بالعمل بكل الوسائل لإيجاد مخرج لهذه المعاناة الأليمة للشعب السوري والشعوب المقهورة والمظلومة في المنطقة، وإيقاف ما يجري من تفريغ لسوريا من أهلها لتبقى ساحة للقتال والاضطرابات ولا تهدأ أبداً، فلو كان الغرب حريصاً على إيجاد حل لمعاناة أشقائنا السوريين لعمل على إصدار قرار دولي ملزم للنظام السوري لإنهاء هذه المعاناة، ولكن ما يحدث هو تكرار لمأساة فلسطين وضياعها وكثير من الأنظمة العربية تتفرج للأسف.
جاء أحد مستشاري الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يوماً إليه يطلب منه أن يسمح بتوجه الجيوش لحرب الروم وملكهم المتغطرس، وقد كانت الخلافة العباسية وقتها تواجه الكثير من الاضطرابات فعم المنصور عبدالله بن علي خرج عليه وأعلن نفسه خليفة، وأبناء عبدالله بن الحسن الهاشمي محمد النفس الزكية وإبراهيم اختفوا للمطالبة بالخلافة أيضاً، عدا عن أطماع أبا مسلم الخراساني في ذلك الوقت، وخطر الخوارج الذين يكفرون الجميع ويستحلون دمائهم، فما كان من المنصور إلا أن أجاب مستشاره بأنه لا يستوي لانسان أن يبدأ باصلاح ظاهره وباطنه عليل.
ونحن نتناسى للأسف بأن الغرب بمعظمه ومنذ أول يوم بدأت فيه الاضطرابات في سوريا وقبل ذلك وحتى اليوم ولسان حاله يقول لنا "الله لا يقيمك"، أو كما يقول البعض بالعامية "اللي من إيدو الله يزيدو"، وهكذا كان أكثرهم على مر التاريخ لمن يقرأ سطوره جيداً فقد كانوا يتفرجون على أبناء الأمة يذبحون بعضهم بعضاً بل ويساعدونهم على ذلك في بعض الأحيان، ومن ثم ينقضون على ما يتبقى منهم لتقاسم الكعكة فيما بينهم وما الأندلس وماجرى فيها منا ببعيد.