اعتدنا كثيراً على معايير القياس المختلفة التي نستعملها على نحو شائع حتى إننا نادراً ما نتوقف للتفكير في صلاحيتها لعالم اليوم أو في تاريخها. فلدينا تخمة من الأرقام لقياس كل ناحية من نواحي الحياة. على أن الوضع لم يكن هكذا دائماً.
إن قياسات الزمن والمسافة التي نستعملها اليوم تطوّرت ببطء , وكل تحسين واجه في الغالب مقاومة ممن لهم مصلحة مكتسبة في المقاييس المألوفة. والزمن مَثَل جيد على ذلك. فقد طوّر المصريون واحدة من أوائل وسائل القياس الناجحة عندما خطر لهم أن يستعملوا ظلّ الشمس لقياس مرور الزمن. وكانت النتيجة أول ساعة شمسية بسيطة. وبمنطق يدعو إلى الإعجاب , رغم أنه في غير موضعه , وضعوا علامات الساعة على مسافات متساوية من بعضها البعض. ونحن نعرف الآن أن هذا أنتج بالفعل ساعات ذات أطوال غير متساوية , تختلف حسب اختلاف فصول السنة. لكن , ونظراً لعدم وجود وسائل قياس بديلة , تعوّد الناس على الاعتماد على هذه الآلات الشاذة إلى حد ما , واقتنعوا بدقتها.
بعد حوالي خمسمائة سنة من إنشاء أول ساعة شمسية , اخترع المصريون الساعة المائية. وقد فزع الصنّاع المهرة عندما اكتشفوا أن ساعتهم المائية الجديدة لم تدل على نفس الوقت كالساعات الشمسية. فافترضوا أن الساعات الشمسية التي ظلّت تُستعمل منذ قرون كانت دقيقة , فصرفوا وقتاً طويلاً بمحاولات غير مجدية لبناء ساعة مائية غير دقيقة تماماً كالساعة الشمسية.
إننا عندما نواجه موقفاً جديداً فإننا نقيّمه حسب أحد مقاييس خبرتنا. ونحن الآن وسط ثورة تقنيّة واقتصادية هائلة. ومع ذلك , فنحن معتادون على استعمال المقاييس الاقتصادية والاجتماعية التي طوّرت العالم نحو العصر الصناعي حتى إننا قلّما نتوقف لنفكر بأن المقاييس القديمة للتقدم والانحلال , والنجاح والفشل , آخذه في فقدان فائدتها بسرعة. فالكثير من الهستيريا الاقتصادية التي أصبحت خلفيّة متواصلة لمناقشة السياسة الحكومية أو استراتيجية العمل يمكن أن نعزوها على عدم دقة مقاييسنا الاقتصادية وعدم علاقتها بالموضوع.
ويبدو أن الفائدة المتناقضة لهذه المقاييس هي أحد الأسباب التي جعلت العديدين من اقتصاديينا الجيدين مخطئين , إلى هذا الحد , بشأن اتجاه الاقتصاد بالفترة الأخيرة. ففي الأعوام السبعة أو الثمانية الأخيرة من عقد الثمانينات , كانت التكهنات النمطية الاقتصادية الموثوقة كما يلي: (( نحن مندهشون من قوة الاقتصاد في هذا الربع من السنة لكننا نتوقع بأن الربع الثاني أضعف وأن يحدث الركود الاقتصادي بعد أربعة أو خمسة أرباع )). وكلمات كهذه دوّتْ من كل منبر خلال تلك الفترة. ومشكلة هذه التكهنات القياسية أنها كانت مغلوطة لفترة طويلة , رغم كونها كالساعة المتوقفة التي تكون صحيحة مرتين في اليوم , فقد وصفت الواقع في تلك اللحظة. وما تظهره هذه التكهنات الفاشلة هو أنه حتى الناس الجيدين يصدرون نداءات رديئة عندما يكون عليهم أن يستعملوا معلومات رديئة.
إن قياس المعرفة , وهي الرأسمال الأساس في اقتصاد المعلومات , أصعب بكثير من قياس الثروة المادية والموجودات الحقيقية التي كانت تسيطر سابقاً على الفكر الاقتصادي. وعندما يتضح أن اليوم مختلف فعلاً عن الأمس , فإن الأمم قد تضطر , ليس فقط إلى تغيير الطريقة التي تقيس بها اقتصادياتها بل إلى تعديل طموحاتها لتنظيمها وضبطها أيضاً. وإذا تبين أن قياس الاقتصاد المستقبل هو حقاً أصعب جوهرياً من قياس اقتصاد الماضي , فقد تضطر الحكومات أن تتخلى عن الكثير من سلطات التخطيط والسيطرة التي اكتسبتها خلال مئات الأعوام العديدة الماضية.
إذن هل يجب أن يكون هناك اعتماد أقل على المقاييس التقليدية كأرقام التجارة والميزانية التقليدية , واعتماد أكثر على الإنفاق على البحث والتنمية , وعلى مدى الاستثمار في الخارج ونسبة الصناعات عالية التقنية لشركات الخدمة والتغييرات في البنية الصناعية وتحرك القوى العاملة , وإنتاجية العمال ورأس المال , ومساهمة المشاريع المطوّرة بطريقة جديدة.
إذ عندما تتغلغل السوق العالمية في جميع أنحاء الكرة الأرضية , سيفهم واضعو السياسة من الدول المختلفة بأنه حتى أقوى دولة لا تستطيع أن تتحكم كلياً في مصيرها , بل ستضطر بصورة متزايدة إلى التعاون في قضايا اقتصادية كانت تعتبرها بأنها اهتمامات وطنية خاصة تقريباً. وهذا , بحد ذاته , سيجبر على إعادة فحص الوسائل التي تقيس بها اقتصادياتها الوطنية , وقد تستجيب بحماسة بجهد دولي نشط لجمع بيانات أكثر معنى عن الاقتصاد العالمي.
أ . د / زيد بن محمد الرماني
ــــ المستشار وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية