قال البروفيسور بول باس، رئيس قسم أورام الصدر بالمعهد الوطني للسرطان، أمستردام، هولندا، والذي زار المملكة مؤخراً لإلقاء بعض المحاضرات الطبية حول سرطان الرئة، أن التطور الهائل لتقنيات التشخيص ساهم في إحداث ثورة علمية غير مسبوقة في علاج سرطان الرئة وتحويله من مرض قاتل إلى مرض مزمن يمكن التعايش معه، فبعد أن كانت الفحوصات التقليدية في السابق تتطلب وقتاً طويلاً لتحديد مدى ملائمة العلاج للمريض بالإضافة إلى محدودية خيارات العلاج المتاحة، فإن الفحوصات الجينية والكروموسومية الحديثة مكنت العلماء من تحديد نوعية العلاج المناسب لكل مريض على حدة، وبالتالي أدت إلى تطوير جيل جديد من الأدوية التي تصل مباشرة إلى مستقبلات محددة داخل الخلية وتحفزها لإعطاء إشارات لنواة الخلية لمقاومة نشاط الخلايا السرطانية وهو ما يعرف بمفهوم “الطب الشخصي الموجه”، وقال البروفيسور محمود شاهين، استشاري طب الأورام وعميد كلية الطب بجامعة الملك عبدالعزيز، وعضو السجل الوطني للأورام، أن هذا التوجه الحديث في علاج كافة أنواع السرطان على وجه العموم وسرطان الرئة تحديداً يساهم في تحديد العلاج الملائم لكل حالة بدقة ويؤدي إلى تجنيب 75 بالمائة من المرضى استخدام العلاج الخاطئ وكذلك تفادي الكثير من الآثار الجانبية بدون داع، ومن ثم يمكن إعطاء المريض أنسب علاج بأقل آثار جانبية ممكنة، وأوضح البروفيسور شاهين أن هناك أربع فئات من مرضى السرطان من حيث إستجابتهم للعلاج ومدى الآثار الجانبية له: الفئة الأولى لا تستفيد من العلاج مع حدوث أعراض جانبية شديدة، الفئة الثانية تستفيد استفادة بسيطة من العلاج مع أعراض جانبية شديدة، الفئة الثالثة تستفيد من العلاج مع أعراض جانبية بسيطة، أما الفئة الرابعة فستفيد من العلاج بشكل ممتاز وبأقل آثار جانبية وهو ما يسعى الطب الحديث الوصول إليه.
وتشير آخر تقارير الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة للأمم المتحدة أن عدد الوفيات بسبب السرطان بلغ 8,2 مليون في العالم في عام 2012م، وأن معدل انتشار السرطان على مستوى العالم ارتفع بنسبة 11 بالمائة خلال السنوات الخمس الأخيرة، في حين تشير التوقعات إلى إرتفاع حالات الإصابة بالسرطان في العالم بواقع 75 بالمائة خلال العقدين القادمين لتصل إلى 25 مليون حالة، أما بالنسبة لسرطان الرئة فتشير الإحصائيات إلى اكتشاف 1,6 مليون حالة جديدة على مستوى العالم خلال عام 2008م، وأن عدد الوفيات الناتجة عن سرطان الرئة تقدر بـ 1,38 مليون وفاة بنسبة 18,2 بالمائة من إجمالي عدد الوفيات الناتجة عن السرطان بشكل عام، وعن الأعباء المالية والاقتصادية المترتبة على مرض سرطان الرئة فتشير الدراسات إلى التكاليف المالية الباهظة لسرطان الرئة والتي تتركز أغلبها في تكلفة التنويم بالمسشتفيات بنسبة 49 بالمائة، تليها تكلفة مراجعة العيادات بنسبة 35 بالمائة، ثم تكلفة اجراء الأشعة بالعيادات الخارجية بنسبة 9 بالمائة، فتكلفة الوصفات العلاجية الصادرة من العيادات الخارجية بنسبة 4 بالمائة وتكلفة الفحوصات المخبرية بالعيادات الخارجية بنسبة 2 بالمائة.
وتعليقاً على ذلك قال البروفيسور محمود شاهين: “”يشكل إرتفاع معدلات الاصابة بالسرطان عائقاً رئيسياً أمام التنمية البشرية وتعافي أفراد المجتمع كافة، ولعل ما تشير إليه التقارير الصادرة عن الوكالة الدولية للسرطان يدق ناقوس الخطر للجميع من أجل سرعة التحرك وتضافر الجهود لمواجهة هذا الخطر الداهم الذي يطال كافة المجتمعات الدولية بلا استثناء”
كما أوضح البروفيسور باس أن الأورام السرطانية بشكل عام تتمتع بقدرة فائقة على التحور حتى بعد فترات من الكمون التي تعقب المعالجة بالأدوية التقليدية وقد تحد من نشاط السرطان بشكل ملحوظ في البداية لمدة قد تصل إلى ثلاثة أعوام لكن الخلايا السرطانية سرعان ما تتحور وتأخذ شكلاً آخر لتعاود نشاطها وتهاجم جسم المريض مرة أخرى، ولعل أهم ما يميز عقاقير سرطان الرئة الحديثة خاصة سرطان الرئة الإيجابي لتحليل ALK + مثل كريزتونيب Crizotinib والتي تؤخذ عن طريق الفم، هو مستوى الاستجابة العالي لدى فئات كثيرة من المرضى بصورة أفضل من استجابتهم للمعالجة الكيميائية، بالإضافة إلى أن الآثار الجانبية لها أقل بكثير وأكثر تحملا من قبل المرضى، فالعلاج الكيماوي يؤدي إلى حدوث تلف في الحامض النووي للخلية DNA وهو ما يسبب الكثير من الأعراض الجانبية للمريض، وأضاف باس: “نحن كأطباء نسعى لتحويل مرض السرطان من مرض قاتل إلى مرض مزمن مثل السكري أو أمراض القلب، يستطيع المريض التعايش معه وممارسة حياته اليومية المعتادة بصورة طبيعية، وهو الأمر الذي أصبح الآن ممكناً مع ظهور أدوية الطب الشخصي الموجه التي تفتح أبواب الأمل أمام المرضى.”
وعن أعرض سرطان الرئة وعوامل الخطورة المرتبطة بالإصابة به قال البروفيسور محمود شاهين أن الأعراض تتركز في الكحة مع ظهور دم مصاحب لها، وضيق في التنفس ونقص الوزن وآلام في العظام، وآلام في الكبد، في حين يعد التدخين أهم عوامل الخطورة المرتبطة بالإصابة بالمرض حيث أن90 بالمائة من حالات سرطان الرئة تكون ناتجة عن التدخين، كما يعد التعرض لعوادم المصانع مثل مصانع النيكل والكروميوم والاسبستوس من عوامل الخطورة أيضا، بالإضافة إلى العوامل الوراثية والجينية وغياب جين محدد يعرف باسم Tumor Suppressor Gene التي قد تلعب دوراً في الإصابة بسرطان الرئة بنسبة 4 5 بالمائة فقط، وأوضح البروفيسور شاهين سرطان الرئة هو القاتل الأول بين جميع أواع السرطانات الأخرى على مستوى العالم ففي أمريكا وحدها يلقى أكثر من 200 ألف شخص حتفهم سنوياً من سرطان الرئة، أما في المملكة ووفقاً لأحصائات السجل الوطني للأورام فيأتي سرطان الرئة في المرتبة السابعة من حيث عدد الوفيات مقارنة بأنواع السرطانات الأخرى، في حين لم يلاحظ إرتباط الإصابة بالسرطان بمنطقة جغرافية عن أخرى، وقال البروفيسور شاهين أن سرطان الرئة ينقسم إلى قسمين رئيسين وهما: سرطان الخلايا الصغيرة ويمثل 20 بالمائة من الحالات، وسرطان الخلايا غير الصغيرة ويمثل 80 بالمائة من الحالات ويتسبب في إعاقة معظم المرضى عن العمل والانتاجية، وتنقسم الحالات المرضية لسرطان الخلايا غير الصغيرة إلى أربعة مراحل، حيث تزيد فرص الشفاء كلما كان اكتشاف المرض مبكراً، حيث يتم التدخل الجراحي بالنسبة لحالات المرحلة الأولى والثانية، وبالنسبة للمرحلة الثالثة فهناك بعض الحالات غير المتأخرة يمكن التعامل معها بالعلاج الكيميائي والإشعاعي، أما حالات المرحلة الرابعة فتكون صعوبة الشفاء وهنا يأتي دور العلاجات المناعية والكيميائية وأخيراً العلاجات الموجهة الحديثة التي تستهدف الخلية السرطانية مباشرة.
وشدد كل من البروفيسور شاهين على أهمية دور التوعية بمخاطر التدخين وسن التشريعات لمكافحة التدخين بصفته عامل الخطورة الأهم للإصابة بسرطان الرئة، وأكد أن الحد من أعداد المدخنين يعد أفضل طرق الوقاية من سرطان الرئة وأكثرها جدوى من الناحية الإقتصادية، خاصة إذا علمنا أنه مع حتى بعد إستئصال الورم السرطاني جراجياً فإن 4 من بين كل 10 ممن أجريت لهم جراحة استئصال سرطان الرئة يعاودهم المرض خلال 5 سنوات معظهم من المدخنين لذا ينصح جميع المدخنين بالتوقف عن التدخين قبل عمر الـ 30 أفضل من بعد ذلك، حيث تبقى فرص معاودة المرض للمدخنين قائمة لمدة تصل إلى 10 سنوات بعد الإقلاع عن التدخين، كذلك تتزايد فرص تعرض المخالطين للمدخنين للإصابة بسرطان الرئة، وقال شاهين أن السيجارة الواحدة تحتوي على أكثر من 500 مادة سامة، كما أن وجود الفلتر يجعل المدخن يحاول سحب الدخان بقوة مما يزيد من تركيز المواد السامة التي تصل إلى الرئة وبالتالي يصبح الخطر أكبر.
فيما أشار بروفيسور باس إلى كتاب “الحرب على السرطان” والذي يكشف مؤلفه روبرت بروكتر، الحيل العديدة لشركات التبغ والتي تنفق ميزانيات فلكية من أجل اجتذاب مدخنين جدد وتسويق منتجات التبغ بشتى الطرق، موضحاً إلى أنه حتى الشخص الذي قدم العديد من إعلانات التبغ الشهيرة توفي من سرطان الرئة نتيجة التدخين، وطالب باس بضرورة زيادة الضرائب على منتجات التبع وتخصيص إيرادات تلك الضرائب إلى أبحاث وعلاجات سرطان الرئة الناتج عن التدخين.
وأختتم كل من البروفيسور باس والبروفيسور شاهين حديثهما بالتأكيد على أهمية العمل بكل الطرق من أجل تعزيز مفهوم العلاج الشخصي الموجه والذي يساهم في تحويل مريض السرطان من مريض ينتظر الموت في كل لحظة إلى مريض متعايش مع المرض.