لقد مررنا جميعاً بالتجربة التالية: أن موقفاً أو حدثاً كان اشتراكنا فيه كثيفاً وواسعاً، يبقى محفوراً في ذاكرتنا زمناً طويلاً. وفي مثل هذه الحالة، يتعرض الجهاز الدماغي لاضطرام حقيقي ويبدأ بالعمل بطريقة التكرار. ونحن عندئذ أمام ردة فعل متسلسلة تؤدي أخيراً إلى تغيير في الخلايا العصبية، جاعلة إياها أكثر تفتحاً واستعداداً.
غير أننا جميعاً مررناً أيضاً بتجربة هذه السنوات الطويلة، في الدراسة التي قضيناها في مراجعة (تكرار) كميات من المعلومات التي بقي لنا منها اليوم آثار قليلة، أو أيضاً هذه الكتب التي نقرؤها وننسى سريعاً جداً عناوينها وتواريخها وعددها.
كيف نفسر مثل هذا الابتعاد للذاكرة؟ نحن نعلم جيداً أن معلومة جديدة يجب أن تطرق عدة مرات ذاكراتنا القصيرة جداً حتى تحل في ذاكرتنا القصيرة (فقط). غير أنه يجب أن نذكر أن ما نتعلمه بالدراسة، لا يبدو دائماً تجربة عشناها مع ما يكفي من الشدة لإطلاق اضطرام الجهاز الدماغي وحفر مقر الذاكرة الطويلة الأمد على الفور.
فما الذي يمكن فعله لتدارك هذا الوضع؟ المقصود أن نعزز طوعياً كل المحرضات التي يزودنا بها التلقن والتعلم، بغية مضاعفة إمكانات ترافق المعلومات والتداعي المتبادل. ويمكننا بهذا أيضاً الاقتراب من حالة المشاركة الشخصية القصوى. لأن إحداث البنى الارتباطية (المتعلقة بتداعي الأفكار) أمر حاسم لتذكر التفاصيل، وينبغي لنا عند دراسة موضوع مجهول، أو معروف أنه شاق، أن نرفق هذه الدراسة بانفعالات مثل الافتتان والرغبة وحب الاطلاع والفرح.
وفي الواقع يجب على كل ثانية أن تهمس قائلة لنا: ((تذكر، أن لهذا علاقة بذاك)). ويكفي أن يحدث في النفس نوع من رد الفعل يعتمل في كل لحظة نواجه فيها الحاضر. فبأي ماض يجعلني هذا أفكر؟ وأي مستقبل يمكنني أن أقصده؟.
إن أخذ بعض الملاحظات أو رؤوس الأقلام، يعني فهمنا للأقوال كلها أو لجزء منها، أي تفضيل هذه الرسالة كلها أو جزء منها للتخزين في الذاكرة. غير أن من يسجلون رؤوس الأقلام غالباً ما يضلون، لأن عملهم الصعب لا يدع في ذاكرتهم، في النهاية، إلا القليل مما سمعوه. كما لو أن الذاكرة تتذبذب بين الرغبة في حفظ كل شي بفضل تسجيل الملاحظات وتخفيف الجهد في أخذ الملاحظات، الذي له دور مخفف، لكن عندما لا تتحقق سيطرة جيدة على التقانة، تصبح النتيجة غير مضمونة.
إن أكثر الملاحظات فاعلية هي التي تتيح تنظيم تداعي الأفكار المباشرة وتوسيعها، والتي يكون جسمنا وذهننا مستعدين لتقبلها. وعلى رؤوس الأقلام والملاحظات أن تستبق تداعي الأفكار هذه، وأن تركزها وتضاعف عددها، مقللة من أضرار تداخلها وتشابكها، بعضها ببعض، بوصفها سيلاً سريعاً جداً أو مجرداً من منطق المعلومات.
إننا باستخدامنا الكلمات المألوفة أكثر من سواها ندرك الأحاسيس الداخلية الحاملة للذاكرة. ويجب أن يكون تسجيل رؤوس الأقلام ترجمة حقيقية للأقوال الأصلية، التي يسمها ناقلها بطابعه الخاص. ولما كان هذا التسجيل لرؤوس الأقلام أكثر بكثير من مجرد نسخة مكررة، لذلك يجب أن يكون إعادة صياغة تعكس علاقة المسجل النفسية الفاعلة بما يسجله.
سواء كان المقصود متابعة مؤتمر أو محاضرة لأخذ ملخص عنها أو قراءة كتاب لتدوين ملحوظة عن القراءة، فإن الذاكرة مهددة بخطر مزدوج: الغرق تحت سيل المعلومات أو التشوش من جراء الخروج عن الموضوع والاستطراد، وأحياناً التناقضات. ولمقاومة هذه التداخلات والتشابكات، لابد من امتلاك الاستهلال أو التوطئة التي تؤدي إلى التعلق بالموضوع الجوهري والأساسي.
[COLOR=#ff000c]أ . د / زيد بن محمد الرماني [/COLOR]
ــــ المستشار وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
للتواصل : zrommany3@gmail.com