
ما تزال الذاكرة الشعبية تحتفظ بصور زاهية من حياة البادية الأصيلة، بكل ما تحمله من صفاء الطبيعة وبساطة العيش، وعمق الروح الدينية و التكافل الاجتماعي الفطري. و تمثل الطفولة في البادية مرحلة زمنية ثرية بالتجارب، يتعلم فيها الطفل المسؤولية مبكرًا، عبر مشاركته اليومية في أعمال الرعي والبحث عن الماء و المرعى. و تأتي المناسبات الدينية، و على رأسها شهر رمضان المبارك، كعلامات مضيئة في ذاكرة البادية، بما تحمله من طقوس روحانية و عادات اجتماعية راسخة.
في هذا اللقاء، نستعرض ملامح رمضان في البادية، من خلال ذاكرة أحد الرموز التعليمية و الثقافية في محافظة رنية، الأستاذ و الأديب والمؤرخ المعروف فهيد بن عبدالله بن تركي بن شويع الفراعنة السبيعي، المعلم المتقاعد من إدارة التعليم بمحافظة الطائف – مكتب التعليم في رنية. نستعيد معه شيئًا من جمال تلك الأيام، و رحلة الصيام بين كثبان الرمال و صفاء الأرواح.
س: نبدأ من الطفولة.. كيف كانت ملامحها في بيئة البادية ؟
ج: عشنا طفولتنا في حياة بدوية أصيلة، بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في معانيها. كنا نرعى الإبل، ونتنقل في أرجاء البراري بحثًا عن مواقع المياه والمراعي الخضراء. كانت الطبيعة كريمة، والأمطار تهطل في مواسمها، فتكسو الأرض بالنباتات وتبعث الحياة في الشعاب والرياض. تعلمنا الاعتماد على أنفسنا، وتربينا على الفطرة، وكان الناس يعرفون مواسمهم واحتياجاتهم من خلال مراقبة النجوم وحساب الأيام
س: و كيف كانت الاستعدادات لشهر رمضان الكريم ؟
ج: كان رمضان له مكانة سامية في قلوب أهل البادية. كانوا يترقبونه ويعدّون أيام الشهور بدقة لمعرفة موعد الصيام، معتمدين على رؤية الهلال. وكان الإفطار بسيطًا ومألوفًا: لبن الإبل أو حليبها، و التمر، لا أكثر. كنا نصوم و نحن أطفال، اقتداءً بالكبار، و نشعر بالفرح لمشاركتهم هذا الشهر العظيم، ونتعلم منهم معنى الصوم والصبر.
س: ما الروحانية التي كانت تميّز رمضان في تلك المرحلة ؟
ج: لرمضان في البادية روحانية لا توصف؛ راحة للنفوس، و سمو للروح، و تفرغ للعبادة. كان الناس يتشوقون لليلة القدر، و يجتهدون في التماسها. و كان من الطرائف التي يتداولها كبار السن، أنّ الفرس الأصيل “يجترّ” في ليلة القدر، فكانوا يراقبون سلوك الخيل تلك الليلة، بحثًا عن علامة من علامات الخير.
س: كيف كانت الأوضاع في البادية إذا وافق رمضان وقت الصيف؟
ج: حين يحلّ رمضان في فصل الصيف، تكون البوادي قد استقرت في العدود بأعداد كبيرة. و كانوا يبنون مسجدًا صغيرًا أو مظلة في مكان مخصص للصلاة، و يؤم الناس في التراويح من يحفظ القرآن أو يجيد القراءة. و كان الشهر فرصة للقاءات والسمر، تمتلئ لياليه بالمحبة والمجالس العامرة، وتُقام التراويح جماعية، في جو يسوده الإيمان والمودة.
س: حدثنا عن موسم “المقياض” وأبرز ملامحه ؟
ج: بعد مضي نحو ثلاثة أشهر من “المقطان”، يحلّ موسم “المقياض”، وهو وقت نضوج الرطب. فيعود الناس إلى بلدتهم، رنية، لجني ثمار النخيل فيما يُعرف بـ “المخاريف”. و كان المقياض مناسبة عظيمة، تلتقي فيها الأسر، و تُقام فيها الولائم، و تعمّ الفرحة أرجاء المكان، احتفاءً بنعمة الرطب و أجواء اللقاء
س: و كيف كانت فرحة العيد في ذلك الزمان؟
ج: كانت الأعياد محطّة من الفرح الخالص، لكن فرحتها لدى الأطفال كانت أعمق وأكبر. كنا ننتظر العيد بفارغ الصبر، نتهيأ له بالملابس الجديدة، و نستعد للعب و المرح. وكانت الأعياد بسيطة، لكنها مليئة بالدفء و البركة، و تعمّ الفرح البيوت والقلوب.
س: أخيرًا، ما الذي بقي عالقًا في ذاكرتكم من تلك المرحلة؟
ج: بقيت الروح البدوية الأصيلة، وبقيت القيم التي تربينا عليها. رغم بساطة العيش، تعلّمنا معاني سامية؛ التعاون، و العبادة، و الفرح الصادق. كان رمضان في البادية مختلفًا؛ بطعمه، و أجوائه، و مكانته في النفوس. وأقول لأبناء الجيل الجديد: أنتم أمل الأمة، فتمسكوا بأصالتكم وهويتكم، واعتزوا بجذوركم التي انطلق منها الآباء و الأجداد. خذوا من الماضي عبقه، و من الحاضر فرصه، واصنعوا لأنفسكم مستقبلاً يليق بكم. احرصوا على القيم، و تعلّموا من البادية الصبر، ومن رمضان الإخلاص، ومن الأعياد الفرح الصادق، ولا تجعلوا التقنية تُقصيكم عن واقعكم وهويتكم، بل اجعلوها وسيلة لربط الماضي بالحاضر.
ختامًا، لا يسعني إلا أن أتقدّم بخالص الشكر و عظيم التقدير لضيفي الكريم، الأستاذ والأديب و المؤرخ القدير فهيد بن عبدالله بن تركي بن شويع الفراعنة السبيعي، على ما تفضّل به من حديث ماتع، و معلومات قيّمة، و ذكريات أصيلة أعادتنا إلى حياة البادية وروح رمضان في تلك الأيام الخوالي. نسأل الله له دوام الصحة والعافية، ومزيدًا من العطاء في خدمة المجتمع والتاريخ والتراث.