أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام، واستهل معاليه خطبته الأولى قائلاً: خلق اللهُ العباد ، وأرسل إليهم الرسل ، وأنزل عليهم الكتب لبيان الإيمان وصحيح الاعتقاد ، وحذرهم من دروب الكفر ، وطرق الإلحاد.
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن هذه الدار خداعة غرارة ، والنفسَ بالسوء أمارة ، والشيطانَ يأمر بالسوء والفحشاء ، ويدعو إلى الخسارة ، أمل ابن آدم في هذه الدنيا طويل ، وعمره فيها قصير ، من تم أجله انقطع عمله ، وأسلمه إلى الله أهله ، وانقطعت عنه المعاذير ، الأعمال جزاء ، فاحذروا العواقب ، والدهر تارات فكونوا على حذر ، من لم يكن يومه خيراً من أمسه فهو مغبون ، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان ، ﴿قُل مَتاعُ الدُّنيا قَليلٌ وَالآخِرَةُ خَيرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظلَمونَ فَتيلًا﴾
وأوضح معاليه قائلاً : الإنسان بفطرته التي فطره الله عليها ، وبخلقه من الروح والجسد لا يقنعه علم ، ولا يكفيه متعة ، بل فيه قلق واضطراب وخوف ، وفيه حاجة إلى الطمأنينةِ بعد القلق ، والسكنِ بعد الاضطراب ، والأمنِ بعد الخوف .
الإنسان وحده من بين جميع المخلوقات يحتاج إلى سند يعتمد عليه إذا ألمت به شدة، أو حلت به كارثه ، أو واجه ما يكره ، أو خاب ما يرجو ، أو وقع ما يحذر.
الإنسان وحده هو الذي يفكر في المبدأ ، ويتأمل في المصير ، وينظر في الكون ، ويعلل الأحداث ، الإنسان وحده هو الذي يتخذ مواقف بحسب هذه النظرات والمدركات، والأسباب والمسببات ، هذه هي الغريزة الدينية المشتركة بين كل أجناس البشر مهما كان تعليمهم ، ومهما كانت أُمّيتهم .
وأضاف معاليهِ مبيناً أنّ جوهر الدين ثابت في النفوس لأنه مرتبط بجوهر الطبيعة البشرية، ومن هنا فلم توجد أمة من أمم أهل الأرض بغير دين .
بل إن حاجة الإنسان إلى الدين أعظم من حاجته إلى الغذاء والدواء ، إنها حاجة تتصل بجوهر الحياة ، وترتبط بسر الوجود .
هل يكون في نظر العاقل أن هذه الحياة ليست إلا أرحاماً تدفع ، وأرضاً تبلع ، والمصير التراب .
يقول فيلسوف ملحد : تشير المعابد ، والكنائس ، والمساجد في جميع الأعصار والأمصار ، تشير ببنيانها وعظمتها وبهائها إلى أن حاجة الإنسان للدين حاجة قوية راسخة .
ويقول ملحد آخر : لقد وُجِدت في التاريخ مدن بلا حصون، وَوُجِدت مدن بلا قصور، ووجدت مدن بلا مدارس، ولكن لم توجد مدن بلا دور للعبادة .
أيها المسلمون: الدين فطرة مستقرة في قلوب كل البشر ، لا تحتاج في إثباتها إلى كبير جدل ، أو طويل حوار ، لأنها من البدهيات .
وبيّن الشيخ صالح بن حميد أنّ الإنسان مفطور على العبادة ، والاعتقاد ، والإيمان: ( كل مولود يولد على فطرة ) ، حتى الملحد يبحث عن اليقين ، والطمأنينة ، ويبحث عن الغايات العليا ، وهذا كله لا يكون إلا في العقيدة الصحيحة ، والدين الحق ، والإيمان الصادق .
الدين الحق – بفضل الله – ومنته هو الذي يمنح القوة عند الضعف ، والأمل حين اليأس ، والرجاء وقت الخوف ، والطمأنينة عند القلق ، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس .
لا يكون للحياة طعم ، ولا يكون فيها أهداف سامية إذا كان في القلب فراغ روحي .
الدين الصحيح هو مصدر القيم ، والأخلاقِ ، والمثلِ العليا ، والحياةِ المطمئنة.
وأكّد خلالَ خطبته بأنّ حيرة بعض العقول في الإيمان بالخالق ليس عن برهان ، ولا علم ، بل هذه الحيرة – كما يقول أهل التحقيق والنظر-: هي عرض مرضي ، ووسوسة نفسية ، وليست ظاهرة فكرية علمية ، وفي التنزيل العزيز : ﴿وَإِن تَدعوهُم إِلَى الهُدى لا يَسمَعوا وَتَراهُم يَنظُرونَ إِلَيكَ وَهُم لا يُبصِرونَ﴾
فالحيرة عند هذه العقول آفة نفسية وليست شبهة عقلية .
معاشر الإخوة : الإلحاد ليس إيمانًا بل هو فقد للإيمان ، فالملحد ملحد لأنه لم يستوعب أدلة الإيمان ، وليس لأنه يملك أدلة على نفي الإيمان ، فالذي في قلب الملحد هو غياب الإيمان بالله ، وليس الإيمان بأنه لا إله .
المنكر والمشكك لا يستند إلى علم صحيح ، ولا إلى عقل صريح ، بل هو سلبي ، فهو لم يستوعب الأدلة ، كما أنه لا يستطيع أن يدلل على ما يعتقد ، ولهذا قال بعض فلاسفتهم : ( لا يوجد ملحد حقيقي ) .
معاشر الإخوة : الملحد لم يرتح ضميره؛ لأنه لم يوافق الفطرة ، ولم تطمئن سريرته؛ لأنه لم يوافق العقل ، لقد طلب الدليل على الواضحات ، فهو كمن يريد أن ينير ضوء الشمس بشمعة .
اضطربت المعايير عنده فتاه في الواضحات عقله ، ينطلق من وهم معدوم ، ويطمع في عدمٍ موهوم .
وتأملوا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( كثير من العلوم الضرورية فطرية ، فإذا طلب المستدل أن يستدل عليها خفيت ووقع في الشك).
معاشر المسلمين : القلوب ضعيفة ، والشُّبَه خَطَّافة ، والأهواء مضلة ، والشهوات والأهواء تسهل مرور الشبهات ، فالشهوات والأهواء هي صابون الشبهات.
أيها المسلمون : الإلحاد مكون من الشك القلبي ، والتشتت الفكري ، فتراهم يقولون : ننطلق من الشك حتى نصل إلى اليقين ، وهذا كمن يقول : نشربْ السمَّ لنجرِّبَ بعده الدواء .
معاشر الإخوة : إن وجود الرب سبحانه أظهر للعقول والفطر من ظهور الشمس وضياء النهار ، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهم عقله وفطرته .
إن كل ما تراه بعينك ، أو تسمعُهُ بأذنك ، أو تعقِلُهُ بقلبك ، هو دليلك إلى ربك ، ﴿أَم خُلِقوا مِن غَيرِ شَيءٍ أَم هُمُ الخالِقونَ﴾.
طريق العلم بالله أمر ضروري ليس فيه أي شك ، ولهذا قالت الرسل لأقوامهم :﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالأَرضِ﴾
سبحان الله كيف يُطلب الدليل على من هو على كل شيء دليل ، إن لله طرائقَ بعدد أنفاس الخلائق ، ( له في كل شيء آية تدل على أنه الواحد ) .
أيها الإخوة :
الملحد ترك ربه وعبد الطبيعة ، وعصى الله وأطاع البشر ، وهجر الشرع واتبع الوهم ، وعاب على المتدينين الاتباع ، وهو متعلق بما يقوله أهل الإلحاد ، واستنكر في الدين مخاطبة القلب ، وهو حائر فيمن يخاطب قلبه ، وادَّعى الثقة والجزعُ يملأ قلبه ، وظَنَّ اليقين والحيرةُ تملأ جوانحه .
أيها المسلمون : الجهل بالدين هو التربة الخصبة لنشأة الإلحاد في أي مكان، وأي زمان ، وكلما كان الدين الصحيح راسخاً كان الضلال أبعد .
واختتم الشيخ خطبته الأولى قائلاً: إن قبول الحق ليس رهين قوة الحجة ، ولا وضوحِ المحجة ، ولكنه رهينُ الصدق في طلب الحقيقة والحرصِ عليها ، ولهذا فإن الحديث عن الحقائق لمن لا يصدق في طلبها جهد ضائع .
وبعد أيها المنكرون والمتشككون والملحدون: ﴿إِن تَكفُروا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُم وَلا يَرضى لِعِبادِهِ الكُفرَ وَإِن تَشكُروا يَرضَهُ لَكُم وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُم مَرجِعُكُم فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ﴾
وفي الخطبة الثانية أوضح معالي الشيخ صالح بن حميد أنّ ليس لله خلقٌ هو أحسنَ من الإنسان ، فإن الله خلقه حيًّا، عالمًا قادرًا، متكلمًا، سميعًا، بصيرًا ، حكيمًا .
أما الملاحدة فقد أسقطوا الإنسان من عز التكريم الرباني إلى درك الحيوان، وما هو أدنى من الحيوان، وسلبوه خصيصة العقل، فهو بعقله يرتقي فوق جميع المخلوقات، في وعي وإرادة حرة، وليس غريزة جبلية ظاهرة ، سلبوه فضيله تسخير الكون له ، هو عندهم منحط من خلية ثم حشرة وما فوقها ، فهم لا يرونه إلا ذرة في مجرة، قال سبحانه: ﴿وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ وَحَمَلناهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقناهُم مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلناهُم عَلى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقنا تَفضيلًا﴾