أكد الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس، أن الله -عز وجل- اصطفى شريعتنا الإسلامية الغراء، فكانت صالحة لكل زمان ومكان، منزهة عن العيب والخلل والنقصان.
وقال في خطبة الجمعة اليوم، في المسجد الحرام، إن من القضايا التي أولاها التشريع المنزلة السامية المنيعة، وبوأها من التحقيق الصدارة والطليعة، قضية الاجتهاد في الدين؛ فنوه بشأنه وآثاره، وحض أولي العلم على انتهاجه واستئثاره، فهو أصل معتبر في الشريعة، قامت في الملة السمحة براهينه وشواهده، ولاحت للعلماء الثقاة ضوابطه وقواعده. وهو استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية، فيما لا نص فيه.
وأوضح أن الحد في ذلك أن يبذل الذي اجتهد مجهوده في نيل أمر قد قصد، ولينقسم إلى صواب وخطأ وقيل في الفروع يمنع الخطأ، ومن القواعد الفقهية المعتبرة في هذا الشأن، «المشقة تجلب التيسير»، «وإذا ضاق الأمر اتسع»، كما أن مدار أحكام الشريعة على «جلب المصالح وتكمليها ودرء المفاسد وتقليلها»، والنصوص تنقسم إلى متواتر وآحاد وإلى ما هو قطعي الدلالة والثبوت وظنيهما والعكس مما يتطلب النظر السديد، والفهم الرشيد؛ حتى لا يظن ظان أن الدين قد تغير،والشريعة تبدلت، لكنه النظر العميق، والفهم الدقيق، والتيسير والسعة ومراعاة المصالح والمقاصد.
كما أكد السديس، يُسر الدين وانسجامه مع المتغيرات، قائلا: لقد كان الاختلاف في فهم النصوص وتفسيرها أرضا خصبة في بيان سعة الشريعة ومرونتها، وبرهانا ساطعا على يسر الدين وانسجامه مع المتغيرات ورعايته للمقاصد النيرات وتحقيقه للمناط في النوازل والمستجدات، أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة» فاختلفوا رضي الله عنهم في فهم ذلك على رأيين أقرهما المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكذا في جملة من المسائل والفروع عدها أهل العلم من اليسر والسعة التي لا يعيب فيها أحد على الآخر على ضوء القاعدة التيمية الذهبية رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
وتابع: فالأحكام الثابتة، وهي الأحكام المنصوص عليها في القرآن والسنة، وتشمل أصول الإيمان، وفرضية العبادات، وتحريم القتل والسرقة والزنا… إلخ. فالأحكام لا مجال فيها لقول قائل أو إعمال عاقل فضلا عن أن تتحدث الرويبضة في أمور الشريعة أو يخوض العامة في مسائل التحليل والتحريم وهم ليسوا في العلم شروى نقير أو قطمير.
وقال: لقد كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القدح المعلى في التيسير والسعة وفي تجديد النظر في المسائل الاجتهادية مع تغير الأحوال والظروف والمستجدات؛ وما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه في حروب الردة، حيث قدم حفظ الدين على غيره. وما فعله عثمان بن عفان رضي الله عنه من جمع الناس على مصحف واحد، وما فعله الفاروق عمر رضي الله عنه من درء الحد بالشبهة في عام الرمادة لعدم الإضرار، وقد كتب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري كتابا جاء فيه: «ولا يمنعنك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل»، فإن الاجتهاد قد يتغير، وقال رضي الله عنه في مسألة في الميراث: «تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم»، وفي طاعون عمواس قال: «نفر من قدر الله إلى قدر الله». وكان إذا نزلت نازلة جمع لها المهاجرين والأنصار وأهل بدر.
واستطرد رئيس شؤون الحرمين في خطبة الجمعة: على هذا الهدي الرشيد سار أئمة الهدى علماء الإسلام: فتوسع الحنفية في إعمال الرأي والقياس، وللمالكية توسع في المقاصد وعمل أهل المدينة، وكان للشافعي قولان قديم وجديد، وللإمام أحمد روايتان بل روايات وأوجه وتخريجات، وكان هذا سائغا وليس باعثا للخلاف. ولما أراد الخليفة جمع الناس على مذهب واحد نصحه بعض الأئمة بألا يفعل ذلك للتوسعة على الأمة، وهكذا كان دأبهم وديدنهم؛ تيسيرا وسعة وإسعادا، وتجديدا دائما في مسائل النظر والاجتهاد.
وعن ضوابط التجديد والنظر في مسائل الاجتهاد قال: إن من أهم ضوابط التجديد والنظر في مسائل الاجتهاد: أن يقوم عليه أهل الحل والعقد والرأي والعلم، فإن موافقة الشرع ومقاصد الشريعة تحتاج إلى العلماء الربانيين، ذوي العقليات الفذة والملكات الاجتهادية، الذين يحكمون الأصول والقواعد، ويزنون الأمور بميزان الشرع الحنيف. وأن يكون مجال التجديد في الفروع والجزئيات والوسائل والصياغات ونحوها، لأن من سمات الشريعة الغراء؛ المرونة والصلاحية لكل الأزمنة والأمكنة، ومراعاة الظروف والمتغيرات، والأحوال والبيئات، وهذا يقتضي شرعا وعقلا أن تستوعب الشريعة هذه الأمور كلها. وأن يكون التجديد محققا لمصلحة شرعية معتبرة، أو دارءا لمفسدة محققة أو راجحة.
وحذر من النيل من العلماء قائلا: فلا يجوز النيل من العلماء السابقين والمعاصرين والحذر من تصنيفهم واتهامهم في عقائدهم ومناهجهم واجتهاداتهم، ولا اتهامهم بالتساهل في أمور الشريعة والتقصير فيها، ورميهم بالتهم والشنائع والشائعات المغرضة من أجل اجتهاد في مسألة، والطعن في نياتهم ومقاصدهم، بل هم بين مجتهد مصيب له أجران، ومخطئ له أجر، فيجب تقدير اجتهادهم، والأدب معهم كما هو منهج السلف رحمهم الله، فهم الرموز العلمية، والقامات الشرعية.
فقد عظم الخطب في ذلك والشغب المورد للمهالك، وهذا من أقبح المسالك في الجرأة على كلام العلماء واجتزاء النصوص وقطعها عن سياقاتها الصحيحة؛ مما عمق الفجوة، وأورث الفتنة، وبعث على التنازع والانقسام.
وأكد الرئيس العام أن من مجالات التجديد في المسائل الاجتهادية ما يسنه ولاة الأمر من أنظمة وتشريعات تحقق مصالح الرعية، ومن القواعد المقرة حكم الإمام في الرعية منوط بالمصلحة، حكم الحاكم يرفع الخلاف، إذ الأصل في الأشياء الإباحة.
وفي الخطبة الثانية، حذر الشيخ السديس من الانفتاح الإعلامي، وقال: في زمن الانفتاح الإعلامي العالمي المبهر، بفضائياته، وتقاناته، لزم العلماء الأجلاء، والدعاة المخلصون الفضلاء بذل غاية الجهود للنظر في النوازل المستحدثات، والقضايا المستجدات، وإنها لقمينة بأن تؤصل على ضوء المفاهيم الشرعية الصحيحة، التي تجلي فقه المآلات، واعتبار الأولويات، والاجتهاد المقاصدي. ولن يكون استنباط الرأي صوابا سديدا، والفهم محكما رشيدا إلا أن يرد أدلة مسلمات الشريعة، وقواعدها المنيعة، ومقاصدها السامية الرفيعة في ترفع؛ أن تلوكها أقلام الصحافة أو تتراشقها المنتديات وشبكات المعلومات، فعليك بالوحيين لا تعدوهما واسلـك طريقهما بفهـم جيد، فإذا تعـذر نص فهم غامض فاستفت أهل الذكر كالمسترشد، ويتحقق ذلك بالاجتهاد الجماعي في المجامع الفقهية والهيئات العلمية مع مراعاة الأحوال والمكان والزمان والبيئات والظروف والعادات والأعراف والأشخاص التي بها يتجدد النظر في المسائل كما أفاض في ذلك الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين، وهكذا يتحقق التيسير والسعة والاسعاد في تجديد النظر في مسائل الاجتهاد.
وحول حرية الرأي قال كما ينبغي أن يعلم أن ما يثار اليوم حول حرية الرأي والتعبير في تجاف عن الثوابت والقواسم المشتركة بين الثقافات والحضارات خلاف هذا المنهج الأصيل، مما يثير التعصب والكراهية والأحقاد وصدام الحضارات، ويبعث على التطرف والإرهاب. وما قضية تكرار حرق المصحف الشريف والمساس بمقدسات المسلمين إلا نماذج من سوء الفهم لما اشتملت عليه الشرائع من مراعاة المقاصد الكبرى في حفظ الدين والأنفس والعقول والأعراض والأموال، فنعم للحرية المنضبطة وألف لا للحرية العبثية الاستفزازية المزيفة، فهل يعي العالم اليوم ضبط المصطلحات وعدم الانخداع بلبس الحقائق والعبارات بما يحقق عالما إنسانيا يتحقق فيه الأمن والسلام والتسامح والتعايش والوئام.