أمّ إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور أسامة خياط المصلين في يوم الجمعة واستهل فضيلته خطبته قائلاً: بيت الله الحرام، وحرمه الآمن، ومشاعره المباركة العظام كل أولئك: مما تتجدد به ذكرى إمام الحنفاء، ورافع القواعد من البيت، إبراهيم أبي الأنبياء، خليل الرحمن -عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وأزكى سلام- كما قال عز اسمه: ﴿وَإِذ يَرفَعُ إِبراهيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيتِ وَإِسماعيلُ رَبَّنا تَقَبَّل مِنّا إِنَّكَ أَنتَ السَّميعُ العَليمُ﴾ وإنَّ في الاستجابة لنداء الخليل بالحج، ذلك النداء الذي أمره به ربه بقوله سبحانه: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، وفي قصد هذا البيت الشريف، في هذه الأشهر الغُر، تجديدٌ لذكرى هذه النعمة، التي أكرم الله بها خليله عليه السلام، وهو تجديدٌ في مواطن الذكريات الأولى، عند البيت والحجر، والركن والمقام، والصفا والمروة وزمزم، ومنى وعرفة والمشعر الحرام وفيه أيضًا: توثيقُ عرى التوحيد الخالص لله رب العالمين، و أخذ النفوس بكمال الالتزام به، وتمام العمل بما يقتضيه، والحذر من كل ما يضاده وينافيه، وهو الشرك الذي يحبط به العمل، فلا ينتفع به صاحبه، ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، ﴿وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا﴾، أي: أشركوا فيه مع الله غيره.
واضاف:إن فرصة حج البيت، لهي من أعظم ما يتم به تجريد التوحيد، وتحقيق العبودية لله، الذي لا معبود بحق إلا هو سبحانه؛ إذ في كل نسك من مناسك الحج، وفي كل شعيرة من شعائره، تتجلى العبودية لله في أوضح صورها، ويتبدى أثرها ظاهرًا في أداء هذه الشعائر، من نية إحرام، وتجرد من المخيط، وحسر عن الرؤوس، وطواف بهذا البيت، واستلام الركن وتقبيل الحجر الأسود، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة ومنى، ورمي الجمار، والذبح أو النحر، وطواف الإفاضة، في كل ذلك مظهر للعبودية الخالصة لله رب العالمين، بإفراده بجميع أنواع العبادة، والتي هي الغاية من خلق العباد، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
وقال فضيلته: إن السبيل الذي يتعين على حاج بيت الله التزامه وعدم الحيدة عنه، ليحظى بهذا الموعود، جاء بيانه في قوله سبحانه: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، وبينه رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه بقوله: “مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ ” ويشمل الرفث غشيان النساء وكل ما يتصل به، ويشمل الفسوق جميع المعاصي سواءً ما كان منها بالقلب كالشرك بالله تعالى، وسائر ما قبح من الأعمال التي يكون مصدرها القلب، أو ما كان بالجوارح كالشتم واللعن والقذف والعدوان بمختلف أنواعه، وكذلك سائر المحظورات التي حظرت على الحاج أثناء تلبسه بالإحرام.
وأشار بقوله: من السبل أيضًا اختيار الحلال من الكسب والتزود به لأداء هذه الفريضة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!”، وإن للحاج في كل خطوة من خطواته، منذ أن يبرح بيته ويفارق وطنه حتى يقضي مناسكه ويختم أعمال حجه: مواقف دعاء وتضرع، يقتضي منه أن يطيب كسبه وأن تزكو نفقته.
وأبان: ومن السبل التي تتعين على الحاج الإخلاص لله تعالى في كل ما يعمل من عمل، وتحري الاتيان به على الوجه المشروع، السالم من الابتداع، قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله سبحانه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب ما كان على السنة).
وقال فضيلته: وإن من الإخلاص يا عباد الله، ألا يقصد الحاج بحجه الفخر والرياء والسمعة، فإنه خرج ابتغاء رضوان الله ورجاء ثوابه، جاء في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: “أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ” وأما وجوب أن يكون العمل على الوجه المشروع وهو ما كان موافقًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أمر به الله تعالى وجعله أساسًا لصحة الاتباع، وسببًا لمحبة الله، وطريقًا إلى غفران الذنوب، فقال عز من قائل:﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وإنه لجدير بحاج البيت أن يتحرى السنة في كل عمل من أعمال حجه، بأن يضع نصب عينيه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة حجته التي عرفت بحجة الوداع، و أن يتخذ منها منارًا يهتدي به، ومرجعًا يثوب ويحتكم إليه، وصدق سبحانه إذ يقول: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.
واختتم: الله: في جوار هذا البيت العتيق، وهذا الحرم الآمن، تتوثق الصلات بين أهل الإسلام، وتقوى الوشائج، وتسود المحبَّة والتعارف والتآلف والتعاطف الذي هو من أظهر سمات المجتمع الإسلامي الراشد، الذي يأخذ أفراده بنصيب وافر من أعمال البر، بالإحسان إلى الفقراء واليتامى والأرامل، ودعم المؤسسات الخيرية الرسمية والمعتمدة، بإمدادها بألوان المعونة، التي تعينها على القيام بأعمال تطوعية جميلة السعي جليلة المراد، فإن هذا من النفقة في الحج والعمرة، التي يؤجر عليها المنفق، ويشكر له سعيه، ففي الصحيحين وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه وسلم قال لها في عمرتها: “إنَّ لكِ من الأجرِ على قدرِ نصَبِك ونفقتِك” وهو من الإحسان في الحج الذي يكون صاحبه معدودًا في من عنى الله تعالى بقوله جل ذكره: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.