خطب وأم المصلين فضيلة الشيخ صلاح بن محمد البدير إمام وخطيب المسجد النبوي.
وبدأ فضيلته خطبته قائلاً : أيها المسلمون اتقوا الله وتزودوا للآجلة ولا تغتروا بالعاجلة ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، أيها المسلمون من الصلات التي ترتقي في المكارم ارتقاء البدور وتنتظم في لبة المجد انتظام الشذور وتتسع في الفضل اتساع البحور حسن الجوار وإكرام الجار واسم الجار يشمل الملاصق الملازق الذي يجاورك بيت بيت والمقارب ولو لم يكن حديداً ملاصقاً والمقابل الَّذِي يَفْصِلُك عنه الطريق والمحاذي المسامت والمشارك في الزقاق والسكة والطريق والمخالط في المسجد ونحوه ، وقيل من ساكن رجلاً في محلة أو مدينة فهو جار لقوله تعالى في المنافقين: ﴿ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾، فجعل تعالى اجتماعهم في المدينة جوارًا وقد أمر الله ببر جار البيت والإحسان إليه وإكرامه دانياً كان نسبه أو نائياً قال جل وعزّ: ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “مَا زَالَ جِبريل يُوصِينِي بالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِثُه” متفق عليه.
وأضاف فضيلته : ومن حسن نجاره حسن جواره ومن أحسن إلى جاره نزلت البركة في داره ولا يستوي جار عطاف ودود يتخرّق في الكرم والجود ومِنْ بنانه يجري الماء في العود وجار نكود كنود جحود ومن إكرام الجار حسن عشرته وحفظ أمانته وستر عورته وغفر زلته وإقالة عثرته ورد غيبته وصون حرمته وذمته وإدامة نصيحته وإجابة دعوته ومكافأة صلته وقضاء حاجته وحسن نصرته ومعونته ورعاية جيرته والكف عن أذيته وترك التغرير به وختله ومخادعته، لا يَرْهَبُ الجيرانُ غَدْرَتَنا … حتَّى يُوارِيَ ذِكْرَنا القبر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «واللهِ لَا يُؤْمِنُ، واللهِ لَا يُؤْمِنُ، واللهِ لاَ يُؤْمِنُ» قِيلَ: مَن يا رَسُول الله؟ قالَ: «الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوائِقَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، والجوار قرابة بين الجيران فتحببوا إلى جيرانكم وأحسنوا إلى فقيرهم ويتاماهم وأراملهم ومساكينهم فالكرام الأجواد لا يظهرُ بَيْنَهُمْ يُتمُ أَوْلادِ الجيران ولا بؤسهم، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَيْسَ المُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وجاره جائع» أخرجه البخاري
في الأدب المفرد، وعن أبي ذَرٍ رضي الله عنه قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذَرٍ إِذا طَبَختَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ ماءَها، وتَعاهَدْ جيرانَكَ» رواه مسلم.
وأكمل فضيلته: أيها المسلمون وللجوار سلطان في التأثير لأن الطباع سرّاقة والنفوس إلى التقليد توّاقة فيكتسب الجيران بعضهم أخلاق بعض بالتجاور والتزاور والمؤانسة والمجالسة وربما اتَّسَمَ الجارُ بسِمَةِ جاره وتخلق بأخلاقه ولربما صلح الرجل بصلاح جاره أو فسد بفساده
ولذلك كان النبهاء الألباء يتخيرون حسن الجوار قبل ابتناء الدار كما قال أبو تمام:
مَن مُبْلِغْ أَفْنَاءَ يَعْرُبَ كُلَّها … أتِي بَنَيْتُ الجارَ قَبْلَ المِنزِلِ
عَلَيْك بجار القَوْم عبد بن حبتر … فَلا ترشدن إلا وجارك راشد، ومن كلام أهل المعرفة في اختيار الجار: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق وقيل اعرف جارك قبل أن تشتري دارك وقيل من ساء جاره ساء قراره
وقيل عليكم بحسن الجوار فإن السباع وعتاق الطير في الهواء تحامى على من يجاورها
اطلب لنفسك جيرانا تجاورهم … لا تصلح الدار حتى يصلح الجار،
ومن سعادة الدار حسن الجوار عن نافع بن عبد الحارث رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(مِن سَعادَةِ المرء المسلم المسكنُ الواسع والجارُ الصالح والمركب الهنيء).
وقال فضيلته: وجار السوء هو قاصمة الظهر وشقاء الدهر وداعية الفقر وهو الشر الدائم، والأذى الملازم يسئ الجوار ويتبع العثار ويشرف على العورة ويفشي السر ويهتك الستر، ويشار ويضار ويمار ويزار ولا يعرف الهارّ من البارّ ولا البعيد من الجار نعار في الفتن، سعاء في الشر له لسع كلسع العقرب ومكر كمكر الثعلب وخبث كخبث الضبع
وما يأمن الجيران منه شهادة … عليهم بعظمى ليس فيها بصادق
قال الصقعب بن عمرو النهدي حين سأله النعمان ما الدّاء العياء، قال: جار السوء الذي إن قاولته بَهَتَكَ، وإن غبت عنه سَبَعَكَ وإن سكت عنه ظلمك
من جَاوَرَ الأُسدَ لم يأمن بوائقَها … وليس للأسد إبقاء على الجار
وقالوا: شر الجيران من عينه تراك، وقلبه يرعاك، إن رأى حسنة سترها، وإن سمع سيئة نشرها، وجار السوء لا يسلم منه جاره وإن احترس فابذل له من المداراة ما يكون حائلاً دون شره ومن الهجر والترك والتجنّب ما يكون قاطعاً لمكره حتى تحقق النقلة عن الدار والفرار من ذلك الجوار.
مضيفًا فضيلته : أيها المسلمون وأعرف من يكون بحال الإنسان أهله وجيرانه والسعيد من تتابعت ألسن أهل الثقة والأمانة من جيرانه له بالخير والثناء لأن ألسنة الجيران لسان الميزان وبينة الإساءة أو الإحسان عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قالَ: قالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ إذا أَحْسَنْتُ، وإذا أَسَأْتُ؟ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذا سَمِعْتَ جيرانك يَقُولُونَ: أَنْ قَدْ أَحْسَنْتَ، فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وإذا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ : قَدْ أَسَأْتَ، فَقَدْ أَسَأْتَ» أخرجه أحمد وابن ماجه، قالَ عُمَرُ رضي الله عنه: «إذا كانَ فِي المَرْءِ ثَلاثُ خِصالٍ فَلا يُشَدُّ فِي صَلَاحِهِ إِذَا حَمِدَهُ ذُو قَرابَتِهِ وجَارُهُ ورَفِيقُهُ»
وأكمل فضيلته : والأذى بِغَيْرِ حَقٍ مُحَرَّمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، ولكِنْ فِي حَقِّ الجَارِ هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيماً وللجار حق فاحترس من أذاته … وما خيرُ جارٍ لا يزال مؤاذيًا، عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ” مَن كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ ” متفق عليه
وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَجُلٌ يا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِن كَثْرَةِ صَلاتِها وصيامها وصَدَقَتِها غَيْرَ أنَّها تُؤْذِي جِيرانَها بِلِسانِها قالَ: هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَإِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِن قِلَّةِ صِيامها وصَدَقَتِها وصَلاتِها وإِنَّها تَصَدَّقُ بِالأنوار مِن الأَقِطِ ولا تُؤْذِي جيرانها بلسانها قالَ: هِيَ فِي الجَنَّةِ. رواه أحمد وصححه ابن حبان
وقال بَعْضُ الأَدَباء: لَيْسَ لِلْجائِرِ جارٌ، ولا تَعْمُرُ لَهُ دار
وإذا كان في داره شَجَرَة فطالت حَتَّى صارت فروعها وأغصانها في دار جاره وتأذى منها فَتُشَمَّرُ وتُقْطَعُ وتُرَدُّ إلى حالٍ لا تُؤْذِي ولا يُحْدِثُ شيئاً له صَوْت شَدِيد مُسْتَدام يؤذي الجار ويجب أن يزيل ما له رائحة خبيثة مستدامة تؤذي جيرانه كالمزبلة والقُمَامةِ والكُناسَة ونحوها لأنه ضَرَر بين بالجيران، ولا تجوز تربية الحمام الطيارة في أسطح البيوت السكنية لأنها تؤذي الجيران ومن الأذية ارتقاؤه السطوح التي يشرف بها على بيوت الجيران وحرمهم والتطلع على عوراتهم لأجله وتضرر الجيران أعشاشها وأوكارها وحطام عيدانها وسَلْحها وذرِّقها وخَذْقها وذلك عدوان عليهم فإن اتخذ طيوراً غير طيّارة للفرخ والبيض أو الأنس أو حمل الرسائل ونحو ذلك من غير أذى يتعدى إلى الناس أو اتخذ طيوراً مقصصات أو محفوظات لا يُطَيّرها فلا بأس ولا يجوز نثر الحبوب وبقايا الأطعمة ونشر مساقي الماء للحمام بين بيوت الناس وعلى وجه الطرق في الأحياء السكنية لما يترتب على ذلك من انتشار الأقذار والأوساخ وأذية الجيران .
واختتم فضيلته الخطبة بقوله : وحق الجار على الجار ألا يخونه في أهله وأن يكفَّ بصره عن نسائه ومحارمه
وأغضُ طَرفي إن بَدَت لي جارتي … حتى يُواري جارتي مأواها
وأعْظَمُ أنواع الزنا وأفحشه أَنْ يَزْنِيَ الجار بِحَلِيلَةِ جَارِه
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قال: «أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وهُوَ خَلَقَكَ»، قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ ، قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ؟ قال: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُل ولَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قال: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِي بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» متفق عليه، فجعل الزنى بحليلة الجار تِلْوًا لقتل النفس لما في ذلك من مفاسد الزنى، كاختلاط المياه، واشتباه الأنساب، وحصول العار، وأذية الجار ونبه بالحليلة على عظم حق الجار، وأنه يجب أن يغار على حليلة جاره من الفاحشة، مثل ما يغار على حليلة نفسه
عن المقداد بن الأَسْوَدِ قال: سَأَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحابَهُ عَن الزنا؟ قَالُوا: حَرَامٌ، حَرَّمَهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ، فَقَالَ: «لِأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِن أنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ»، وَسَأَلَهُمْ عَنِ السَّرِقَةِ؟ قالُوا: حَرامٌ، حَرَّمَها اللهُ وَرَسُولُهُ، فَقالَ: «لِأنْ يَسْرِقَ مِن عَشَرَةِ أَهْلِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِن أن يَسْرِقَ مِن بَيْتِ جارِهِ» أخرجه البخاري في الأدب المفرد.