أكد المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي الدكتور عبدالرحمن بن عبدالله الحميدي، أن الوتيرة المتسارعة لرقمنة الخدمات المالية خصوصا في أعقاب جائحة كورونا، والابتكار في البنية التحتية المالية، واستخدام تقنية السجلات الموزعة، جنباً إلى جنب مع ظهور آليات التمويل اللامركزي، أدت إلى قيام البنوك المركزية في أنحاء العالم بتقييم مختلف جوانب العملات الرقمية للبنوك المركزية والنقود الإلكترونية، من حيث دراسة واختبار مختلف حالات الاستخدام لمدفوعات الجملة والتجزئة لهذه العملات.
وقال خلال كلمته اليوم (الاثنين) في الورشة المهمة حول «العملات الرقمية للبنوك المركزية ومستقبل النظام النقدي» التي نظمها صندوق النقد العربي بالتعاون مع البنك المركزي السعودي وصندوق النقد الدولي: كذلك ظهر مفهوم شبكة الالتزامات المنظمة، التي تتجاوز مفهوم عملات البنوك المركزية الرقمية إلى إطار أوسع، بما في ذلك أموال البنك المركزي على شكل رموز رقمية، وأموال البنوك التجارية، والأموال الإلكترونية، ذلك باستخدام تقنية السجلات الموزعة وجعلها قابلة للاستبدال على الشبكات المالية.
وأضاف: في ذات السياق، تتسارع التجارب العالمية لاختبار جدوى مشروع العملات الرقمية للبنوك المركزية، وتقييم جميع الجوانب ذات الصلة، من التصميم إلى دراسة الآثار المختلفة لهذه العملات على الاستقرار المالي والسياسة النقدية ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وغيرها. حيث تحدد أوضاع وأولويات كل بنك مركزي دوافعه لإصدار وتصميم عملة رقمية بما يتناسب والموارد المتاحة والآثار المستهدفة، أخذا في الاعتبار الظروف الخاصة بكل دولة، والبنية التحتية، وكذلك الأطر القانونية والتنظيمية ذات الصلة.
وأفاد الدكتور الحميدي بأن الدول العربية لم تغب عن هذا المشهد، «حيث نستشهد بالاستبيان الذي أعده صندوق النقد العربي في هذا الشأن، حيث عكس الاهتمام المتزايد على مستوى المنطقة العربية بتقييم إصدار البنوك المركزية لعملات رقمية بنسبة 76% من المصارف المركزية العربية المستجيبة للاستبيان، وهي 17 مصرفا مركزيا عربيا، ولايزال النقاش في مرحلة الاستكشاف والدراسة. أيضاً لم يقرر بعد 11 مصرفا مركزيا عربيا، من ضمن المصارف المركزية العربية المستجيبة للاستبيان، نوع العملة الرقمية التي يستهدف إصدارها، في حين أشارت البنوك المركزية الستة الأخرى إلى العملات الرقمية لمدفوعات الجملة ومختلف أنواع العملات الرقمية لمدفوعات التجزئة، تحديداً العملات الرقمية المختلطة للبنوك المركزية، والتجزئة المباشرة، والعملات الرقمية المركبة».
وأكد أن هذه الردود تبرز الاهتمام بالعملات الرقمية لمدفوعات التجزئة في إطار مساعي تسريع وتيرة الشمول المالي، وتعزيز الاقتصاد غير النقدي والانتقال للخدمات المالية الرقمية، ورفع كفاءة تتبع المعاملات وتحويلات العاملين.
وأشار إلى أن الدول العربية عكفت على رفع كفاءة البنية التحتية المالية ونظم المدفوعات الوطنية، على سبيل المثال من خلال تطوير نظم المدفوعات اللحظية، إضافة إلى دعم الابتكارات في المدفوعات باستخدام البوابات الإلكترونية، وخدمات مدفوعات الهواتف النقالة، ورمز الاستجابة السريع، وواجهات تطبيقات البرامج.
وأوضح أن الدول العربية بذلت جهودا حثيثة خلال الأعوام الماضية لزيادة نسب النفاذ للخدمات المالية الرسمية، يظهر ذلك جليا من خلال ارتفاع معدلات الشمول المالي لمتوسط الدول العربية من خلال السنوات العشر الماضية، منذ عام 2011 وحتى 2021، من واقع مؤشر البنك الدولي Findex، لترتفع نسبة امتلاك الحسابات في المؤسسات المالية إلى 40%، مقابل نسبة 22% في عام 2011، كما يشار إلى التطور في نسب استخدام خدمات المدفوعات الرقمية منذ عام 2014، لتبلغ نحو 32% خلال عام 2021 مقارنة بنسب قدرها 26% و21% خلال عامي 2017 و2014 على التوالي.
وتابع رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي: عند التوجه لإصدار عملة رقمية، تعنى المصارف المركزية بالمبادئ الرئيسية لتعزيز التطبيق السلس لمنظومة العملة الرقمية، في ظل الحفاظ على سلامة القطاع المالي واستقرار الاقتصاد، ومنها إطلاق العملة الرقمية بناء على قاعدة قانونية واضحة ومتينة، وبما يخدم أغراض البنك المركزي لتحقيق أهداف السياسة النقدية ونظم المدفوعات واستقرار النظام المالي، وتعزيز النفاذ للخدمات المالية الرسمية ورفع كفاءة النظام المالي في ظل الابتكارات المالية المشهودة، ذلك في إطار التوافق مع الأطراف ذات العلاقة في تلك المنظومة.
وقال: يصاحب إطلاقَ العملات الرقمية عددٌ من التحديات والمخاطر التي تستوجب التحوط منها، حيث أشارت الدول العربية ضمن الاستبيان الذي أعده صندوق النقد العربي في العام الماضي، إلى أبرز التحديات التي يجب التغلب عليها لتبني نظام عملة رقمية سليم.
وأضاف: تنبع أهمية وضع الإطار التشريعي والتنظيمي الملائم وهيكلة العملة الرقمية بما يحد من المخاطر الناشئة ويراعي خصوصية كل دولة. كما بات جليا أهمية تبني سياسات تساهم في إدارة كفؤة لمنظومة العملة الرقمية للبنوك المركزية حال التوجه بإصدارها، بهدف تحقيق التوازن بين سلامة واستقرار القطاع المالي وتعزيز نظم المدفوعات الوطنية، آخذة في الاعتبار الظروف الخاصة بكل دولة، حيث تستند العديد من التجارب الحالية الخاصة بالعملات الرقمية للبنوك المركزية إلى التصميم ذي المستويين للعملات الرقمية الخاصة بمدفوعات التجزئة، للتخفيف من مخاطر عدم الوساطة المالية، إذا لم يتم تضمين البنوك التجارية في نظام العملة الرقمية للبنوك المركزية.
واستطرد: من جانب آخر، توجهت بعض التجارب الرائدة إلى إدخال قيود على الأرصدة ومبالغ المعاملات للتحويل إلى الحسابات والمحافظ بمختلف الفرضيات، للسيطرة على حجم العملات الرقمية المتداولة، كما يشار إلى أهمية تفعيل الهوية الرقمية وتكاملها مع أنظمة الدفع، والموازنة بين الحفاظ على خصوصية البيانات الشخصية ومكافحة الأنشطة المالية غير المشروعة، حتى في حالة عملات البنوك المركزية الرقمية غير معرفة الهوية، وهي العملات الرقمية القائمة على آليات الترميز.
كذلك يمثل كل من توسيع قاعدة المؤسسات المسموح لها بإلحاق العملاء وتعزيز تدابير «اعرف عميلك» الخاصة بهم، والتخفيف من مخاطر الإقصاء المالي من خلال تسريع معدل وصول المستخدم النهائي إلى الخدمات المالية وتوفير حلول مالية متنوعة للمستخدم النهائي، ولاسيما الشرائح الهشة من أفراد المجتمع، الذي هو حجر الزاوية لتسريع وتيرة نفاذ أكبر عدد من مستخدمي الخدمات المالية إلى منظومة العملات الرقمية. ولا يغيب عن هذا المشهد الاعتناء بسالمة أمن الفضاء الإلكتروني باعتباره الأساس في نظام العملات الرقمية للمصارف المركزية.
وبيّن أن الورشة تناقش موضوع العملات الرقمية للبنوك المركزية، من عدة أوجه مختلفة، لاسيما من حيث استعراض المستجدات المتعلقة بمختلف خيارات التصميم والمتطلبات والاعتبارات التقنية والتنظيمية المتعلقة بإصدار العملات الرقمية للبنوك المركزية، كذلك حالات الاستخدام التي قد تحفز مستخدمي ومقدمي الخدمات المالية للالتحاق بنظام العملة الرقمية، إضافة إلى الاطلاع على بعض التجارب الرائدة على مستوى العالم للاستفادة منها، إلى جانب مناقشة الانعكاسات على السياسة النقدية، والاستقرار المالي، ونظم المدفوعات الوطنية، بهدف الحفاظ على سلامة ونزاهة النظام المالي.
كما تناولت الورشة آفاق العملات الرقمية للبنوك المركزية وآثارها على الشمول المالي، من حيث الوصول للخدمات المالية وخدمات الدفع، وإدارة مخاطر العملات الرقمية للبنوك المركزية على الشمول المالي، للتأكد من نزاهة وتكامل النظام المالي والتداعيات على الجوانب التنظيمية والرقابية.
واستعرضت الورشة فرص تعزيز المدفوعات عبر الحدود خصوصا المدفوعات بين الدول العربية، من خلال استخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية، بما يشمل متطلبات بناء منصات رقمية لدعم كفاءة وشمولية المدفوعات عبر الحدود، والدروس المستفادة من بعض التجارب العملية في هذا الشأن.
من جانب آخر، تختتم الورشة بحلقة نقاشية لمحافظي المصارف المركزية ومؤسسات النقد العربية، حول مرئياتهم، والتوصيات حول السياسات والتوجهات المستقبلية الملائمة للدول العربية.
ولفت الدكتور عبدالرحمن الحميدي النظر إلى نشاط صندوق النقد العربي في مجال التقنيات المالية الحديثة، حيث يعمل الصندوق على دعم جهود دوله الأعضاء على صعيد التحول المالي الرقمي، من خلال أنشطة مجموعة العمل الإقليمية للتقنيات المالية الحديثة، بهدف تعزيز قدرات السلطات الرقابية والإشرافية لدعم تبني مختلف الأنشطة المالية الرقمية في ظل أطر تنظيمية ملائمة بما يحافظ على سلامة القطاع المالي.
كما يحرص صندوق النقد العربي على توفير المشورة لدوله الأعضاء، من خلال مختلف الأنشطة التي يقوم بها وما يصدر عنه من مبادئ وأدلة إرشادية وأوراق سياسات بهدف دعم جهود المصارف المركزية العربية في عملية صنع القرار، مما يسمح لها بالمضي خطوة بخطوة في رحلة تقييم إصدار عملات رقمية، متطلعا للفرص التي تقدمها الورشة للتشاور العميق حول مختلف أبعاد العملات الرقمية، وتقييم مدى جدواها للمصارف المركزية العربية، والتحوط من مختلف المخاطر المصاحبة لها، إضافة إلى التأسيس على الدروس المستفادة عند تبني تفعيل هذه المنظومة، كما أن الصندوق على استعداد للقيام بدوره في إيجاد منصات للحوار والتعاون والتنسيق بين السلطات الإشرافية في الدول العربية بما يخدم الارتقاء بجهود السلطات ويعزز فرص تبادل التجارب والخبرات.