أمّ المصلين اليوم في صلاة الجمعة فضيلة الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم، حيث اوصى فضيلته المصلين بتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، والزموا جماعة المسلمين وإمامهم فإن يد الله على الجماعة، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
وأكد فضيلة الدكتور الشريم إن الحياة تقلب وتداول، تحمل في طياتها أفراحا وأتراحا، وضحكا وبكاء، وكدرا وصفاء، من سره زمن ساءه زمن آخر، فمنغصاتها كثيرة، ونفس المرء تحوم بها في كل اتجاه زوابع الكدر والقتر والهموم والغموم، ومثل هذا التراكم عباد الله: كفيل بغياب راحة البال عن المرء حتى يحيل له العسل مرا والعذب ملحا أجاجا ، مشيراً ان مما لا ريب فيه عباد الله: أن من أعظم النعم في هذه الحياة راحة البال، فإن من ذاقها في حياته فكأنه ملك كل شي، ومن فقدها في حياته فكأنه لم يملك شيئا البتة، ولا ينبغي أن يفهم أحد أن راحة البال تعني ترك العمل أو هي الدعة والكسل، كلا بل إن هذه الراحة برمتها متولدة عن عمل قلبي وعمل بدني،ولا عجب إذا قيل إن العمل من مقتضيات راحة البال.
وبين فضيلته معنى البال وهو الحال والشأن، يقال فلَان رخيُّ البال وناعم البال، أي موفور الْعَيْش، وهادئ النَّفس والخاطر، وهو باعتبار ما يضاف إليه، فثمة كسف بال، وشغل بال، وفساد بال، والغرض المنشود لكل عاقل هو راحة البال التي هي صلاحه وصفاؤه، والله جل وعلا يقول:(الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم).
وزاد فضيل الدكتور الشريم إن أهل النظر والنباهة يدركون جميعا: أن راحة البال غاية منشودة للمرء، وأنها تفتقر إلى سكينة قلب لا يغشاها جلبة، وصفاء روح لا يشوبه كدر، وأخذٍ بالأسباب الجاذبة، وقطعٍ للأسباب الدافعة، فالاحتقان النفسي والقلق، والتوتر والفرق، وتغليب الظنون السلبية على الظنون الإيجابية، كلها عوامل مزاحمة لراحة البال إن لم تكن طاردة لها بالكلية، ومربط الفرس في ذلكم كله هو القلب؛ لأن القلب إذا كان سليما يقظا استسقى راحة البال بمجاديح الصفاء وسلامة الصدر، فإذا كان تصفير التلوث البيئي أمرا منشودا عند الناس، فإن تصفير التلوث القلبي كذلكم، فالأول للحفاظ على البيئة، والآخر للحفاظ على البال؛ حيث إن راحة البال لا يذوقها امرؤ ذم غيره لِينال المدح دونه، ولا امرؤ خفض شَأنَ غيره ليعلو شأنه، ولا امرؤ أطفأ نور غيره ليَسطُع نوره، ولا امرؤ أسكت غيره ليكون الحديث له وحده، ولا امرؤ صعد على أكتاف الآخرين ليقطف الثمرة له دونهم، ولن يذوق راحة البال من لم يتصالح مع نفسه، ومع الناس، ويصفر صراعاته معهم، وكذاكم لن يذوق راحة البال: من لم يكن كما هو بلا تكلف، ومن لبس لبوسا ليس لبوسه، ومن مشى مشية ليست مشيته.
وأوضح إمام وخطيب الجمعة إن راحة البال لنعمة كبرى، ومنحة جلى، لا ينالها كل أحد، فهي لا تشترى بالمال، ولا تفتقد بالفقر، لأنها إحساس قلبي، وشعور عاطفي لا تستحلبه زخارف الدنيا بالغة ما بلغت من المال والجاه، وفي الوقت نفسه لا يعيقه فقر ولا عوز بالغين ما بلغا من المسغبة والإملاق، فقد ينال راحة البال فقير يبيت على حصير، ويفتقدها غني يتكئ على الأرائك ويفترش الحرير، فذلكم الشعور العاطفي عباد الله: هو راحة البال، التي لا تتحقق إلا بجسر مشيد، ينشئه المرء فوق بحر الأثرة والغل والحسد؛ ليعبر به من دنياه إلى أخراه، عزيز النفس سليم القلب منشرح الصدر، تراه قد آوى إلى فراشه حين يرخي الليل سدوله، فيغمض عينيه، ويغط في نوم عميق، لا يعيقه تفكير، ولا ينغص نومه أرق.
موضحاً فضيلته إن من أخصر الطرق لاستجلاب راحة البال: إدراكَ المرء أن الحياة مهما طالت فهي قصيرة، وأنها مختصرة في ثلاث آيات قصيرات، من قول الله جل شأنه عن الإنسان:(خلقه فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقبره)،نعم عباد الله: لم تكن الحياة بحاجة إلى وصف أكثر من هذا ولا أوجز منه؛ ليدرك المرء: أن الأمور بيد الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن ما كان له فسيأتيه وإن أبى الناس أجمعون، وأن ما لم يكن له فلن يأتيه ولو ملك كنوز قارون، وأن ما مضى فات فلن يرجع إليه، وأن المستقبل غيب لا يعلمه إلا الله، وأنه ليس له إلا ساعته التي هو فيها، ولهذا استدل أهل المعرفة على راحة بال المرء بثلاث: بحُسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما قد فات.
واختتم الدكتور فضيلته الخطبة الاولى بإن المرء بمثل هذا الفهم واستصحابه في كل آن، سيتدثر براحة باله، ويتزمل بسكينة قلبه وصفاء عيشه ، ولأجل أن يؤمن المرء لنفسه ديمومة راحة البال، فعليه استصحاب أمور أربعة: أولها: أنه لا نجاة له من الموت، بل هو ملاقيه وإن فر منه؛ لأن الموت يرقبه من أمامه لا من خلفه(قل إن الموت الذين تفرون منه فإنه ملاقيكم)وليستحضر في نفسه قول علي رضي الله عنه ، وثانيها: أن لا راحة دائمة في الدنيا، وأن الأيام قلب، إن سرت نفسا ضاحكة ساءت نفسا باكية ، وثالثها: أن لا سلامة من الناس على الدوام، وأنه مهما كان تحرزه منهم وعزلته فالسلامة منهم أعز من الكبريت الأحمر، ورابع الأمور: أنه لا راحة بال لمن لا رضا له، فإن الرضا بالله وبقضائه وقدره أس أساس لراحة البال، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إِن الله بقسطه وعدله جعل الرَّوح والفرح في اليقين وَالرضا، وجعل الهم والْحَزن في الشك وَالسُّخط”، وروى مكحول أن ابن عمر رضي الله عنه كان يقول: “إن الرجل ليستخير الله فيختار له، فيتسخّط على ربه، ولا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خِير له”، وسُئل الحسن البصري: من أين أتِي هذا الخلق؟ قال: “من قِلَّة الرضا عن الله”، قيل له: ومن أين أتي قلَّة الرضا عن الله؟ قال: “من قلَّة المعرفة بالله”.
واستهل فضيلته الخطبة الثانية بتذكير المصلين بتقواه وأن جماع راحة البال في أربعة:في البدن بعدم إرهاقه بكثرة العمل، وعدم إكساله بالدعة وقلة العمل، وفي النفس بقلّة المعاصي والذنوب، وفي القلب بقلة الاكتراث بهموم الدنيا، وفي اللسان بحفظه مما يسفل به، وزمه عن مزالق القول وفحشه.
وشدد فضيلته بالاجتهاد والتماس راحة البال في طاعة الله وذكره، التمسوها في قلب سليم وخُلقٍ حسن، وكف الأذى عن الناس، وكفكفة دمع مكلوم ومسح رأس يتيم، التمسوها في الصدق والأمانة والتواضع والرضا، التمسوها في تجاهل السفهاء ومجادلة الحمقى، التمسوها في التغافل فهو تسعة أعشار راحة البال إن لم يكن هو راحة البال كلها، من لم تكن هذه مظان راحة البال عنده فعليه ألا يتعنى؛ لأنه كالذي يطلب الري بالماء المالح، أو كالذي يستسمن ذا ورم، وينفخ في غير ذي ضرم ، ثم إن التقرب إلى الله بالنوافل عباد الله: من أعظم أسباب راحة البال، لأن كثرة النوافل مدعاة لمحبة الله، ومن أحبه الله أصلح باله وأراحه، ففي الحديث القدسي قول الله جل شأنه: “وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجْله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه” رواه البخاري.