أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام معالي الشيخ الدكتور صالح بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام واستهل معاليه خطبته الأولى عن فضل الأخ والأخت فقال: من صلب الأب خرجوا ، أو في رحم الأم اجتمعوا ، أو فيهما جميعا نشؤا ، إنهم الإخوة الأشقاء ، والإخوة لأب ، والإخوة لأم ، إنهم جميعاً إخوان النسب .
بطن الأم حملهم ، وحضنها ضمهم ، ومن لبنها أرضعتهم .
الأخُوَّة : رابطة نسبية ، ومحبة فطرية ، وقربة شرعية .
الإخوة والأخوات هم جمال الدنيا ، وأنس العين ، بوصلهم تتوثق الحياة ، وبحبهم تحل السعادة ، وبصلتهم تكون طاعة الله وابتغاء مرضاته .
العلاقة بين الإخوة من أرق العلاقات وأرقاها ، وأَشدِّها وأقواها ، وأقدِرها على البقاء ، ومن أصلبها في الملمات ، من أوثقها في مواجهة الصعاب والأزمات .
معاشر الإخوة : وتبدأ هذه العلاقة الكريمة في التوثق والتمتن من الوالدين ، فالوالدان هما اللذان يربيان أبناءهما تربية تزرع فيهم حقوق الُأخوَّة ، إن تعاملهما مع أبنائهما هو سر العلاقة التي تنشأ بين الإخوة .
وأعظم ذلك وأكبره تحقيق العدل في كل أنواع التعامل معهم من النظرات ، والقُبْلات ، والهدايا ، والأعطيات ، وتجنب المقارنات الخاطئة ، والبعد عن الغلظةِ في المعاملة لبعضهم دون بعض ، والحذر من تشجيعِ من يستحق التشجيع بتحقير الآخرين ، أو الحطِّ من قدرهم .
ثم تحدث معاليه عن فضل العيش مع الإخوة فقال : الحياة مع الإخوة في بيت الوالدين نعمة عظيمة ، وصلة حميمة ، يتبين جمالها ، ويظهر الحنين إليها حينما ينتقل الأخ إلى بيت الزوجية فتنبعث الأشواق إلى إخوانه وإلى منزل والديه ، مأدبةِ الطعام المشترك ، ومشاركة الحياة في العواطف ، وأحاديثِ المودة ، وارتفاع الأصوات وانخفاضها في انسجام ، وأخذ ورد ، وعفو ، وتسامح ، وعطاء وتغافل ، والتماس للأعذار .
بيئة كريمة تصان فيها الحقوق ، وتغرس الفضائل ، توقير للكبير ، ورحمة بالصغير ، واحترام للند والمماثل .
وتحدث معاليه عن مشاركة الإخوة فقال: أخوك تعطيه ويعطيك ، وتأخذ منه ويأخذ منك ، تتفق معه وتختلف ، تعاتبه ويعاتبك ، ثم تصطلحون ، وفي آخر النهار تضحكون وتسمرون .
يفرح لفرحك ، ويحزن لحزنك ، يرد غيبتك ، ويستر عيبتك ، إذا مددت يدك إلى خير مدها ، وإن رأى فيك ثغرة سددها ، وإن نزلت بك نازلة واساك ، وإن سألته أعطاك ، وإن سكت ابتداك ، يؤثرك في الرغائب ، ويتقدم عليك في النوائب ، إذا غبت افتقدك ، وإذا غفلت نبهك ، وإذا ضللت أرشدك ، وإذا دعا ربه لم ينسك ، هو التاج على الرأس ، والقلادة على الصدر .
أخوك إذا وقع فارفعه ، وإذا احتاج فساعده ، وإذا ضعف فأسنده .
الإخوان هم على نوائب الدهر أعوان ، يُستظل بهم ، ويُعتمد عليهم ، أوثق من يُستوثق ، وأودع من يُستودع .
أخوك عضيد لا يلين ولا يتراخى ، ولا يدبر ، ولا يتخلى ، هو مكمن السر ، ومحل الستر .
أخوك أخوك : ينشر الحسنات ، ويطوي السيئات ، إذا خدمته صانك ، وإذا صحبته زانك ، أنس الخاطر ، وسلوة القلب ، وقرة العين ، وهو عصاك التي تتوكأ عليها .
ومن لطائف التفسير : أن الله سبحانه كلما ذكر نبيا وصفه بأنه أخو قومه : ﴿ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ﴾ قال تعالى: ﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ﴾ قال تعالى : ﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ﴾ قال أهل العلم سماه أخا تنبيها إلى إشفاقه عليهم شفقة الأخ على أخيه .
وبين معاليه عن خسارة مكانة الإخوة فقال: من الخسارة والغبن أن لا تعرف مكانة أخيك إلا بعد أن تفقده ، نعم تفقده إما بموت ، أو بسبب مطامع الدنيا ، فتبقى وحيدا لا تقدر على شيء.
كم من أخ بكى على قبر أخيه متمنياً لو اصطلحا قبل لحظة الفراق .
إن الحفاظ على الأخوة في قوتها ومتانتها تحتاج إلى عقل ، وحكمة ، وصبر ، وتحمل ، وتضحية .﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ .
لا تقابل تصرفات إخوانك بالتحليل والتدقيق ، فأغلبها أو جُلُّها عفويةٌ تلقائية لا تقبل التحليل ولا التعمق ، ولا تستحق الوقوف عندها .
واعلم أنه مهما طالت علاقتك بإخوانك فهي لن تدوم ، فلسوف يقطعها أقربكم أجلاً ، وأعجلكم موتا ، فبادر – حفظك الله – بكل خير ومكرمة ، قولاً وفعلاً ، ولا تمنن تستكثر .
إذا كنت ذا علم ، أو منصب ، أو جاه ، أو ثراء ، أو شهرة ، فانزع عنك هذه العباءات كلَّها حينما تكون مع أهلك وإخوانك .
بادر بالتواصل مع إخوانك حتى ولو كنت ترى أن الحق لك .
احرص على ضبط التعاملات المالية بالدقة ، وكتابتها ، والإشهاد عليها ، وتوثيقها .
من الكمال والجمال والمروءة أن تُظْهِر افتخارَك بإخوانك ، وبما يمتازون به من فضل ومكانة .
أخبارك وأحوالك ينبغي أن تصل إلى إخوانك عن طريقك لا عن طريق غيرك بعد تقدير المصلحة في ذلك .
واعلم – حفظك الله – أن كثرة الشيء ترخصه ، فلا تكن كثير اللوم ، والنقد ، والعتاب ، والاستقصاء ، والتشكي .
واعلم أن كثرة العتاب طريقُ النفرة والاجتناب .
يقول علي رضي الله عنه : من لم يحمل أخاه على حسن النية لم يحمده على حسن الصنعة .
ويقول حمدون القصار رحمه الله : إذا زل أخوك فاطلب له سبعين عذراً ، فإن لم يقبله قلبك ، فاعلم أن العيب فيك ، حيث ظهر لك سبعون عذرا فلم تقبله .
واختتم معاليه خطبته الأولى عن حقيقة الإخوة فقال: حقيقة الأُخوَّة : مودة في القلب ، ولطف باللسان ، ورفد بالمال ، وتقوية بالأدب ، وحسن الذب عن العيب ، وتناصر ، وتعليم ، ونقل خبرات.
الأخوة الصالحة : تورث المجد ، والإيثار ، وتبعد الحسد ، والشحناء ، والغل والقطيعة.
ومن المقطوع به في تجارب الناس أن اجتماع الإخوة يزيدهم قوة ، وتفرقهم يوقعهم في الضعف والهلكة .
الإخوان والأخوات نعمة عظيمة ، ومنحة جليلة تحتاج من يقدرها ويحوطها ويحافظ عليها . حسن العلاقة ، وجمالها سبب متين لسعادة الدنيا وفلاح الآخرة .
وتحدث معاليه في خطبته الثانية عن صيانة ومراعاة الأخوة فقال: الأخوَّة نعمة تصان بالرعاية ، وتحاط بالعناية ، وتحفظ عن المكدرات ، وتحرس عن المنغصات ، الأخوة : أنس في الوحشة ، ونور في الظلمة ، وفرح في الحزن .
استعيذوا بالله من إخوة بينهم شحناء ، وعداوةٌ وبغضاء ، وغلظة وجفاء ، قطيعة شنيعة ، وفرقة فظيعة ، خيرهم مصروف للناس ، وشرهم مجموع للإخوان ، البعيد أنيسهم ، والقريب موحشهم ، الوجوه بينهم عابسة ، وقلوبهم فيما بينهم قاسية ، صدورهم ضيقة ، لعبت بهم الأهواء ، وفرقهم وسخ الدنيا ، وعبث فيهم الطمع ، فقطعوا أرحامهم .
يكدر صفو الأُخوَّة ضعفُ الإيمان ، ونسيان الديان ، واستدراج الشيطان .
يكدر صفوة الأخوة مطامع الدنيا : مال ، وميراث ، وعقار ، وإيجار .
واختتم معاليه خطبته الثانية عن البيوت السعيدة والتعيسة فقال: لعلكم تستذكرون إخوة تقاطعوا أعواماً ، أو إخوة ترافعوا أمام المحاكم تداعيا وخصاما ، وإخوة نهبوا حقوق إخوانهم وأخواتهم ظلما وعدوانا .
كما تتذكرون إخوة بكوا دماً ، كما بكوا دموعاً بعد فراق إخوانهم متمنين لو اصطلحوا قبل الفراق ، وتراضوا قبل يوم الحساب .
هذه النماذج هي التي يستذكرها الناس ويتداولون أحوالهم وقصصهم .
أما الإخوة المتصافون المتحابون ، فلا يذكرهم الناس لأن الحكمة تقول : (البيوت السعيدة لا صوت لها ) ، ( والضجيج تصدره الأواني الفارغة ) .
فهذه البيوت الكريمة يصعب حصرها ، ويعجز العاد عن عدها .
بل كم رأيتم أسراً كبيرة قد اجتمعت في مناسباتها في الأعياد ، والأفراح ، والأتراح ، ورأيتم السرور يعمهم ، والسلام يُظِللهم ، ثم تظنون أن هذه الأسر المباركة لا مشكلات عندهم ، ولا اختلافات بينهم ، بل إنهم أسر كريمة غلَّبوا جانب الدين ، والعقل ، وحقِّ الرحم ، فخفضوا فيما بينهم الجَنَاح ، وبسطوا في دوربهم التودد ، وتنازلوا عن كثير من الحقوق ، لانهم بعقلهم وتدينهم أدركوا أن خفض الجَنَاح ليس ضعفاً ، والتودد ليس نفاقاً ، والتنازل ليس انكساراً .