أم المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد النبوي فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالباري الثبيتي وأستهل فضيلته خطبته الأولى عن أحسن العمل فقال: يقول الله عز وجل {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلً} آية تطيب نفوس المؤمنين، وتبشرهم، وتؤنسهم، ولم يطرق الآذان قول أطيب ولا ألذ ولا أزكى ولا أحلى من هذا
الوعد:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلً} والمؤمن يصدق وعد الله، ويثق في عدله، وعلى يقين بفضله.
هذه الآية تحفز المسلم للنظر في أعماله؛ فالإسلام يريد أحسن العمل وأجوده، ومن بذل جهده واستفرغ طاقته واستحضر الإخلاص وأتقن العمل ليبلغ في الأعمال الدينية والدنيوية الإحسان؛ فله عند ربه مرتبة سنية، ويكرمه ربه بمحبته ومعيته ورحمته.
وتحدث فضيلته عن إحسان العمل فقال: تئن المجتمعات والأمم من مظاهر فقد إحسان العمل المتمثل في إهمال الأعمال، والتسيب في أوقات العمل، وضعف الإنتاج، وتضييع الأمانة وقلة النزاهة واتساع دائرة الفساد، فضلا عن إحسان العمل،وتسن لذلك التشريعات الحازمة والقوانين الصارمة، ومع أهميتها نجد أن الإسلام جاء بمنهج رباني لا مثيل له، وهدي نبوي لا نظيرله، يثمر العلاج الناجع، والدواء الناصع، ينبثق هذا المنهج من المعنى الإيماني العميق الذي يربي على الإحسان، ويزرع الإيمان، بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} ، وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإحسان يشمل شؤوننا كلها؛ فقال: {إن الله كتب الإحسان على كل شيء}.
{أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} ، يوقظ ضمير المعلم والطبيب والمهندس والمسؤول ويدفع لتحقيق أعلى درجات الإتقان وتجويد العمل، لأن الجميع يستشعر أن عمله محل نظر الله تعالى، وهذا يورث التجرد من النفاق والرياء، ويتجاوز مراقبة رئيسه ومسؤوله، والسعي لشهرة وسمعة إلى مراقبة الله؛ فتتقدم الأمم وتتهض وتزداد صلاحا وتنمية ورقيا، وما أوتيت المجتمعات من فساد وخلل؛ إلا بسبب ضعف
تحقيق الإحسان والإتقان في العمل.
إذا رافق الإحسان المسلم في عبادته وصلاته وذهابه ومجيئه وقيامه وقعوده وفي مكان منه مسلما صادقا أمينا محسنا في صنعته، متقنا في مهنته، ومباركا له عمله؛ سيصنع في ماله وصحته وأولاده.؛ يحوطه حفظ الله ، وتغشاه رحمته ومحبته؛ قال الله تعالى: {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
وتحدث فضيلته عن نماذج الإحسان في القرآن الكريم فقال: والقرآن حافل بنماذج من إحسان الله لمن أحسن؛ ليرى المحسن المتقن في عمله اثر الإحسان وعظيم الجزاء وموفور العطاء من رب الأرض والسماء: وكيف يضيع لصاحب الإحسان
إحسانا وهو يسمع كلام الله العظيم الكريم الرزاق: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} لقد أحسن إبراهيم عليه السلام في بر والده نصحا وإرشادا؛ فحفظ الله له هذا الإحسان في بر ذريته له وهدايتهم؛ إحسانا بإحسان؛ {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42)}.
فكل نصح يصدره بقوله يا أبت التي تحمل غاية اللطف والرقة والأدب؛ فأكرمه الله ببر بنيه؛ فلما أمر بذبح ابنه؛ استسلم الابن لأمر الله والسمع والطاعة لوالده قائلا:{ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} .
أحسن نبي الله يوسف عليه السلام شكر نعمة الجمال بالعفة والأمانة؛ فحفظ الله إحسانه بالنبوة والسيادة وعلو المكانة؛{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } فأحسن الله إليه بحفظه وتمكينه ووصفه بأنه من المحسنين:{وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
ولما نزل على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الملك بغار حراء؛ قال لزوجه خديجة رضي الله عنها: {قد خشيت على نفسي}، فقالت: {أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبددا: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق }فلن يخزي الله من أحسن إلى مجتمعه ووطنه وأمته بأعمال الخير والبر .
وأحسن ذو النورين فيما أمده الله به من المال صدقة وإنفاقا؛ فأحسن الله إليه أثرا يمتد ، وأجرا لا يحد وثراء لا ينفد؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين} .
هذه النماذج تبين أن الله يجازي من أحسن في عمله ما هو أفضل وأكمل وأشمل وأعظم {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلً}.
وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن الإحسان لصالح المسلم فقال: والإحسان في العمل هو إحسان من نفسك لنفسك؛ قالى تعالى:{إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ} قال بعض السلف: ما أحسنت إلى أحد، وما أسأت إلى أحد، وإنما أحسنت إلى نفسي، وأسات إلى نفسي.
وعلى المسلم أن يعلم أن إحسانه وفاء لنعم الله وشكره سبحانه وتعالى على ما من به عليه قال الله تعالى :{وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} فمن وسع الله عليه رزقاً أو مالاً أو جاهاً أو علماً؛ فإن عليه أن يشكر الله على ذلك بصرفه في الطرق التي شرعها؛ وقد شفع صلى الله عليه وسلم لمغيث لدى زوجته بريرة رضي الله عنهما، وأمر أصحابه بالشفاعة
فقال: {اشفعوا تؤجروا} رواه البخاري ومسلم.