أم المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام معالي فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن حميد فتحدث في خطبته الأولى عن تهذيب النفس والعمل للآخرة فقال : الدنيا تقطع بالأقدام ، ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب .
وإن في النفوس ركونا إلى السهل والهينِّ، ونفوراً عن المكلِّف والشاق ، والحازم يرفع نفسه إلى معالي الأمور ، ويروضها حتى تألف جلائل المطالب ، و تطمح إلى أعالي الذرى ، حتى إذا ما عرفت العزة نفرت من الذل ، وإذا ذاقت لذة الروح استصغرت لذة الجسد .
والفكر لا يحد ، واللسان لا يصمت ، والجوارح لا تسكن ، فإن لم تُشْغل بالعظائم شُغِلت بالصغائر ، وإن لم تستعمل في الخير انصرفت إلى الشر.
فسبحان من أشهد بعض عباده جنته قبل لقائه ، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من رَوْحها ، ونسيمها ، وطيبها ، ما استفرغ قواهم بطلبها ، والمسابقة إليها .
حتى قال بعض السلف : إنه لتمر بي أوقات أقول : إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب .
نعم – حفظكم الله – شتان بين من يُنْعِم بدنا ، ويُهْلِك قلبا ، ومن يُتْعِب بدنا ، ويُسْعِد قلبا : ( حُفَّتْ الجنةُ بالمكاره ، وحُفَّتْ النار بالشهوات).
ثم تحدث فضيلته عن حلاوة الإيمان فقال : يقول الحافظ بن رجب رحمه الله : الإيمان له حلاوة ، وطعم يذاق بالقلوب كما تذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم ، والإيمان هو غذاء القلوب وقُوتُها ، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقُوتها ، والجسد يجد حلاوة الطعام والشراب عند صحته ، فإذا سقم لم يجد حلاوة ما ينفعه ، بل قد يستحلى ما يضره ، فكذلك القلب يجد حلاوة الإيمان إذا سلم من مرض الأهواء المضلة و الشهوات المحرمة ، وإذا مرض وسقم لم يجد حلاوة الإيمان ، بل يستحلى ما فيه هلاكه من الأهواء والبدع ، والمعاصي ، والمنكرات . انتهى كلامه رحمه الله .
ومعنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات ، وتحمل المشقات في رضى الله عز وجل ورضى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإيثار ذلك على عرض الدنيا .
وحلاوة الإيمان ولذة العبادة هي راحة النفس ، وسعادة القلب ، وانشراح الصدر عند القيام بالمطلوبات الشرعية من كل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأقوال ، والأفعال الظاهرة والباطنة .
وهي حلاوة تختلف من شخص إلى شخص ، ومن حال إلى حال ، ومن قوة وضعف ، وإقبال وإدبار .
فسبحان من فاوت بين الخلق في هممهم حتى ترى بين الهمتين أبعد ما بين المشرقين والمغربين .
حلاوة الإيمان – عباد الله – مفتاح الثبات على طاعة الله ، ولذة العبادة سر الصمود أمام الفتن .
أيها الاخوة : والقلب إذا خالطته بشاشة الإيمان ، وامتلأت البصيرة بنور الوحي ظهرت فيه هذه الحلاوة ، وبرزت فيه هذه السعادة .
وتحدث فضيلته عن لذة العمل الصالح فقال : لذات الدنيا مصحوبة بالمنغصات والمكدرات ، ولذة العمل الصالح خالصة .
ولذة العمل الصالح لا ملل فيها بل كلما زاد من العمل الصالح زادت اللذة والسعادة .
ولذة الدنيا قد تُفَوِّت على العبد لذة الآخرة ، ولذة العمل الصالح مدركة في الدنيا والآخرة .
أما الأسباب الجالبة لهذه الحلاوة ، فأولها وأهمها تزكية النفس وتطهيرها ، فمن شرب من إناء متسخ فلن يجد الحلاوة التي ينشدها ، ولو أنه نظفه وطهره ، ثم سكب فيه الماء فسوف يجد الحلاوة الكاملة ، والعذوبة التامة ، وكذلك القلب الذي تلبس بقاذورات المعاصي وأدران الخطايا ، وأوساخ الشهوات لا يجد حلاوة الإيمان إلا عندما يطهر وينظف .
وفي الحديث الصحيح : ( ثلاث من فعلهن فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان : من عبد الله وحده ، وأن لا إله إلا هو ، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه ، وزكى نفسه ) .
وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ) رواه مسلم .
ويقول بشر بن الحارث : ( لا يجد العبد حلاوة العبادة حتى يجعل بينه وبين الشهوات حائطا من حديد ) .
ثم تحدث فضيلته عن تزكية النفس فقال : وتكون التزكية بإقامة العبد فرائض الله باطنا وظاهرا ، ولزومِ السنة ، مستعينا بالله ، متبرئا من حوله وقوته ، وأول ذلك توحيد الله عز وجل ، والإخلاص له ، وصدق التوكل عليه ، والاعتماد عليه ، والاستعانة به ، مع محبته ودوام ذكره ، والسكون إليه ، والطمأنينة إليه ، وإفراده بالحب والخوف ، والرجاء والتوكل ، بحيث يكون سبحانه هو المستولي على هموم العبد ، وعزماته ، وإراداته ، وإنما تقر عين العبد بربه على حسب قربه من ربه عز وجل ، فمن قرت عينه بالله قرت منه كل عين ، ومن لم تقر عينه تقطعت نفسه عليه حسرات ، ومن تعلق قلبه بربه ، وجد لذةً في طاعته وامتثال أوامره ، لا تدانيها لذة .
ومن التزكية أن يجاهد العبد نفسه في التوبة من الذنوب ، ويكثر التوبة والاستغفار ، متبرئا من حوله وقوته ، سائلا ربه الإيمان والتوفيق والتسديد .
فإذا رأى انه لا ينشرح صدره ، ولا يحصل حلاوة الإيمان فليكثر التوبة والاستغفار ، ويلازم الاجتهاد بحسب الإمكان ، وبقدر الجهد الطاقة ، إن من اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض ثم بالنوافل قربه إليه حتى يرقى إلى درجة الإحسان فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه فيمتلئ قلبه بمعرفة الله ومحبته ، وعظمته ، وخدمته ، ومهابته ، وجلاله ، والأنس به ، والشوق إليه .
والعبد كلما ازداد عبودية الله وافتقاراً ازداد لنفسه ازدراء واحتقاراً ، وتعلَّق قلبه بربه وحده سبحانه ، ولهذا خاف من خاف من الصالحين النفاق على نفسه .
ويقول مطرف بن عبد الله بن الشخير : لأن أبيت نائما وأصبح نادماً ، أحب إلى أن أبيت قائما ، وأصبح معجبا ، فالمعجب لا يصعد له عمل ، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين الُمدِّلين .
وأحب القلوب إلى الله قلب قد تمكن منه الانكسار ، وملكه الافتقار ، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه ، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلا .
ومن الوسائل العظيمة الجالبة للذة والحلاوة : الدعاء فهو السلاح الذي لا ينبو ، وقد جاء في الحديث : ( وأسالك نعيما لا ينفذ ، وقرة عين لا تنقطع ) رواه أحمد .
وليكثر العبد من قراءة القرآن بالتدبر ، والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض ، ومداومة ذكر الله ، وإيثار محابه على محاب النفس عند غلبة الهوى ، ومشاهدة بره ، وإحسانه ، وإكرامه ، وإنعامه ، واغتنام وقت السحر ، ووقت النزول الإلهي ، ومجالسة الاخيار والصالحين .
ثم اختتم فضيلته خطبته الأولى بالحديث عن استجلاب حلاوة الإيمان فقال : ومن أعظم ما يستجلب به حلاوة الإيمان ولذة العبادة العناية التامة بأعمال القلوب ، وبخاصة المحبة والرضا ، وفي خبر الصحيحين : ثلاث من كن فيه وجد حلاة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه كما يكره أن يعود في النار ) .
والمحبة العظيمة تورث شوقا عظيما ، وأعظم لذة في الدنيا أن تشتاق لله كما أن أعظم لذة في الآخرة هي النظر إلى وجهه الكريم ، ، ولهذا جمع بينما النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه : ( وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم ، والشوق إلى لقائك ) ، رواه احمد والنسائي .
يقول بعض السلف : ( أطيب ما في الدنيا معرفة الله ومحبته ، وأطيب ما في الآخرة رؤيته ) .
وقال بعض الصالحين : مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها ، قيل له : وما أطيب ما فيها ؟ قال محبة الله ومعرفته وذكره .
ومن لوازم المحبة الرضا بالمحبوب والرضا عنه ، فذلك من أعظم مقامات الإيمان الذي بتحقيقه تحصل الحلاوة واللذة ، وفي الحديث الصحيح : ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ) رواه مسلم.
والمحبة والرضا أعلى مراتب الإيمان .
ويصل العبد إلى مقام الرضا إذا التزم ما فيه رضى ربه ومولاه ، قال بعض السلف : ( الرضا باب الله الأعظم وهو مستراح العابدين).
وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن آثار حلاوة الإيمان فقال : أيها المسلمون ومن آثار حلاوة الإيمان ولذة العبادة : الثبات على دين الله فلا يزال العبد في أداء العبادات ، والإكثارِ من الأعمال الصالحات حتى تصير لذته في هذا الاجتهاد ، حتى تراه يشعر بالحسرة في ضياع شيء من وقته ، وفتوره في العبادة .
ومن الآثار كذلك : الرغبة في المزيد من الطاعة فتصير الصلاة قرة عينه ، والصيام متعته ، والذكر أنيسه ، والقرآن العظيم جليسه ، ومن اعظم آثار هذه الحلاوة :أن يحييه الله الحياة الطيبة .
فيكون من أطيب الناس عيشا ، وأشرحهم صدراً ، وأقواهم قلبا ، وأسَرهِّم نفسا ، تلوح نضرة النعيم على وجهه .
واختتم فضيلته خطبته الثانية عن موانع حصول لذة الإيمان فقال: وإذا كانت هذه هي حلاوة الإيمان ، وهذه أسباب تحصيلها ، وآثارها فاعلموا أن من موانع حصولها المعاصي والذنوب ، فإن المعاصي حجاب غليظ يمنع إدارك حلاوة الإيمان ، ولذة العبادة ، لما تورثه من قسوة وغلظة ، وجفاء ، حتى قال بعض السلف : ( ما ضرب الله عبداً بعقوبة أعظم من قسوة القلب ) .
فرب شخص أطلق بصره فحرم نور البصيرة ، أو أطلق لسانه فحرم صفاء القلب ، أو آثر شبهة في مطعم فأظلم صدره ، وحرم قيام الليل ولذة المناجاة .
وذكر ابن القيم رحمه الله : أن من عقوبة الذنب محو لذة الذكر ، والقراءة ، والدعاء ، والمناجاة .
وقد قال أهل العلم : أن أهل المعاصي والذنوب لا يجدون حلاوة العبادة ، ولا لذتها ، ولا يتنعمون بها ، فالعبادة ليست قرة أعينهم ، ولا سرور قلوبهم ، ولا غذاء أرواحهم وحياتهم .
ويقول ذو النون رحمه الله : وكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه ، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب .