أم المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالله بن عواد الجهني، فتحدث في خطبته الأولى عن رحمة الله بعباده فقال: من رحمة الله سبحانه وتعالى بعبده الإنسان أنه لم يتركه سدى بل جعل له نورًا يهتدي به ، وقوة يرتكز عليها ، وسلاحا يدافع به، فأرسل أنبياءه ورسله مبشرين ومنذرين ،وأمره بالاعتصام بالله والاستعانة به ، وحثه على التقوى التي تدفع كل سوء ، والتقوى شعور يقع في قلب المؤمن تظهر آثاره على الجوارح ، تحمله على الرغبة فيما عند الله والعمل لتحصيله ، وتورث الخشية من الله ومن سخطه ، فيبتعد عن معاصي الله ، فالتقوى إيمان راسخ وقوة نفسية لا ترضى الوقوع في معاصي الله ولا التكاسل عن أداء الواجب لله ، تسير بالمؤمن على صراط مستقيم ، ومنهج سليم ، حتى يصل إلى دار القرار والنعيم .
ولقد أوصى الله سبحانه وتعالى جميع خلقه الأولين والآخرين بأن يتقوه ، وخص المؤمنين بوصية التقوى قال تعالى :((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ)) قال أهل العلم : هذه الآية هي رحى آي القرآن كله ، لأن جميعه يدور عليها ، فما من خير عاجل ولا آجل ، ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه ووسيلة مبلّغة له ، وما من شر عاجل ولا ظاهر ولا آجل ولا باطن إلا وتقوى الله – عز وجل- حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.
ثم تحدث فضيلته عن مفهوم تقوى الله فقال: تقوى الله – سبحانه وتعالى- عبادالله ، هي عبادته ، بفعل الأوامر وترك النواهي عن خوف من الله وعن رغبة فيما عنده ، وعن خشية له سبحانه ، وعن تعظيم لحرماته ، وعن محبة صادقة له سبحانه ولرسوله .
وقد ذكرت التقوى في كتاب الله في أكثر من مائتين وخمسين موضعا ، بل إنه قد تكرر الأمر بالتقوى في الآية الواحدة مرتين أو ثلاثا قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) ) وقال تعالى : (( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين )) وقد كان هذا دأب الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام مع أُممهم بالوصية بتقوى الله عزوجل ، فنوح عليه الصلاة والسلام أولهم قال تعالى ( كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون ) وبعده عاد عليه الصلاة والسلام قال تعالى : ( كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون ) وصالح عليه الصلاة والسلام مع قومه قال تعالى: (كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون ) ولوطٌ عليه الصلاة والسلام مع قومه قال تعالى ( كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون ) وشعيب عليه الصلاة والسلام مع أصحاب الأيكة ، قال تعالى : ( كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون ) ولو. أمعنا النظر في بعض قضايا التشريع لوجدنا التقوى في مقدمتها تهيئة لها أو نتيجة عنها وفي مقدمة ذلك قضية الربا قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) وتقوى الله تعالى هي سياج الأمان من كل رذيلة ، والملاذ من نزغات الشيطان ، قال تعالى ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذاهم مبصرون ).
واختتم فضيلته خطبته الأولى عن عظم تقوى الله فقال : ولعظم أمر التقوى كانت وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر حياته بتقوى الله تعالى والسمع والطاعة لولاة الأمور ، كما جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه ، وفيه أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن كان عبدا حبشيا ، فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافًا كثيرأ ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وإن كل بدعة ضلالة . خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح .
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله : فهاتان الكلمتان تجمعان سعادة الدنيا والآخرة ، أما التقوى فهي كافلة سعادة الدنيا والآخرة لمن تمسك بها ، وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا ، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم ، وطاعة ربهم .
فاتقوا الله أيها المسلمون واعلموا أن التقوى هي أجمل لباس يتزين به العبد وأفضل زاد يتزود به العبد قال تعالى : ( ولباس التقوى ذلك خير ) وقال تعالى : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) .
قال بكرٍ المزني ( رحمه الله ) : لمًا كانت فتنة ابن الأشعث ، قال طلق بن حبيب ( رحمه الله ) : اتقوها بالتقوى ، قيل له صف لنا التقوى ؟ فقال : العمل بطاعة الله على نور من الله ، رجاء ثواب الله ، وترك معاصي الله على نور من الله ، مخافة عذاب الله .
قال الإمام الذهبي ( رحمه الله ) : أبدع وأوجز ، فلا تقوى إلا بعمل ، ولا عمل إلا بترو من العلم والاتباع ، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله ، لا ليقال فلان ترك للمعاصي بنور الفقه ، إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها ، ويكون الترك خوفا من الله لا ليمدح بتركها ، فمن داوم على هذه الوصفة فقد فاز . انتهى كلامه رحمه الله .
وقال رجل لميمون بن مهران ( رحمه الله ) : يا أبا أيوب لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم ، قال : أقبل على شأنك ، ما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم .
ثم أوصى فضيلته المسلمين في خطبته الثانية بتقوى الله فقال: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى والتمسك بدين الإسلام ، والعمل بأحكامه والاهتداء بهديه والتحلي بفضائله والوقوف عند حدوده ، فإنه لا فلاح للأمة ولا عز لها ولا كرامة ولا نصر لها ولا تأييد إلا بدينها وبإسلامها ، ولا نجاة لها يوم القيامة ولا فوز لها بالجنة إلا بتقوى الله تعالى ، فهي سلاح المؤمن في هذه الدنيا ، وهي خير زاد له عند لقاء ربه ، وهي النجاة من كربات الدنيا والآخرة ، فمن اتقى الله وقاه ، ومن عمل بطاعته رضي عنه وأرضاه.