أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور أسامة خياط فتحدث فضيلته في خطبته الأولى عن الصراط المستقيم فقال : إن الطريقَ إلى الله تعالى في الحقيقة واحدٌ لا تعدّدَ فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبَه موصِلاً لمن سلكه إليه وإلى رضوانِه وجنّاته، كما قال سبحانه: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
فوحّد سبحانه سبيلَه لأنّه في نفسه واحدٌ لا تعدّدَ فيه، وجمع السّبل المخالفةَ له لأنّها كثيرة متعدِّدة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسندِه والدارميّ في سننه بإسناد حسَن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خطَّ خطًّا مستقيمًا ثمّ قال: ((هذا سبيل الله))، ثم خطّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثمّ قال: ((هذه السبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه))، ثمّ قرأ: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ).
فالطّريق إلى الله واحد؛ لأنّه سبحانه الحقّ المبين، والحقّ واحد مرجعُه إلى واحد، وأمّا الضّلال فلا ينحصِر.
ومِن هنا يُعلَم أن الشرائع مع تنوعها واختلافها ترجع كلها إلى دينٍ واحد، مع وحدَة المعبودِ ووحدةِ دينِه، ومنه الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الأنبياء إخوةٌ لِعَلاّت، أمّهاتهم شتى ودينهم واحد)) ، فأولاد العلاّت من كان والدهم واحدًا وأمّهاتهم متعدّدة، فشبَّه صلوات الله وسلامه عليه دينَ الأنبياء بالأبِ الواحد، وشبّه شرائعهم بالأمّهات المتعددة، فإنها ـ أي: هذه الشرائع ـ وإن تعدّدت فمرجعها لأبٍ واحد.
وتحدث فضيلته عن طريق العباد الى الصراط فقال: وإذا تقرّر هذا فمن النّاس من يكون العلم والتّعليمُ سيِّد عملِه وطريقه إلى الله، قد وفّر عليه زمانَه مبتغيًا به وجهَ الله، فلا يزال كذلك عاكفًا على طريق العلم والتعليم عامِلاً بما علِم حتى يصِل من تلك الطريق إلى الله، أو يموت في طريق طلبِه، فيرجَى له الوصول إلى مطلبِه بعد مماته كما قال سبحانه: (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـٰجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ ) الآية.
ومِن النّاس من يكون الذّكر وتلاوةُ القرآن سيّدَ عمله، الغالبَ على أوقاتِه، قد جعله زادَه لمعادِه ورأسَ ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصّر رأى أنّه قد غُبِن وخسِر.
ومن النّاس من يكون سيّد عمله الصلاة، فمتى قصّر في وردٍ منها أو مضى عليه وقتٌ وهو غير مشغولٍ بها أو مستعدّ لها أظلم عليه قلبه وضاق صدره.
ومن النّاس من يكون طريقه الإحسانَ والنفع المتعدّي، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثةِ اللّهفان وأنواع الصّدقات، قد فتِح له في هذا وسلك منه طريقَه إلى ربّه.
ومن النّاس من يكون طريقه الصومَ، فهو متى أفطر تغيّر قلبه وساءت حاله.
ومنهم من يكون طريقه الذي نفَذ منه الحجَّ والاعتمار.
ومنهم الجامعُ لتلك المنافِذ، السالِك إلى الله في كلِّ واد، الكادِح إليه من كلِّ طريق، فهو قد جعل وظائفَ عبوديّته قبلةَ قلبِه ونصب عينه، يؤمّها أين كانت، ويسير معها حيث سارَت، قد ضرَب مع كلّ فريقٍ بسهم، فأين كانت العبوديّة وجدتَه، إن كان علم وجدتَه مع أهله، أو صلاة وجدتَه في القانتين، أو ذكرٌ وجدتَه في الذّاكرين، أو إحسان وجدتَه في زمرةِ المحسنين، أو محبّة ومراقبة وإنابةٌ إلى الله وجدتَه في زمرة المحبّين المنيبين، يدين بدين العبوديّة أنَّى استقلّت ركائبُها، ويتوجّه إليها حيثُ استقرّت مضارِبها.
واختتم فضيلته خطبته الأولى عن من أعرض عن ذكر الله فقال : فمن أعرض عن الله بالكلّيّة ـ يا عباد الله ـ أعرض الله عنه بالكلّيّة، ومن أعرض الله عنه لزِمه الشقاء والبؤسُ في أعماله وأحوالِه.
فالمحروم كلّ المحروم إذًا هو من عرف الطريقَ إليه ثمّ أعرض عنها، أو وجد بارقةً من حبّه ثمّ سلِبها، ولم ينفذ إلى ربّه منها.
وصدق سبحانه إذ يقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ، قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ ايَـٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ).
وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن فضل إقبال العبد على الله فقال: إنّ الله إذا أقبل على عبدِه السالكِ إليه استنارت حياته، وأشرقت ظلمَاته، وظهر عليه آثارُ إقباله من بهجةِ الجلال ونضرة الجمال، وتوجّه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبّة والموالاة؛ لأنهم تبعٌ لمولاهم سبحانه، فإذا أحبّ عبدَه أحبّوه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشّيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ الله تعالى إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريلَ فقال: إني أحبّ فلانًا فأحبَّه، فيحبّه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إنّ الله تعالى يحبّ فلانًا فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء، ثم يوضَع له القبول في الأرض)).
ويجعلُ الله قلوبَ أوليائه تفِد إليه بالودّ والمحبّة والرّحمة، وناهيك بمن يتوجّه إليه مالكُ الملك ذو الجلال والإكرام بمحبّته، ويقبل عليه بأنواع كرامتِه، ويلحَظ إليه الملأ الأعلى وأهلُ الأرض بالتّبجيل والتّكريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فاتقوا الله عباد الله، واعمَلوا على كلِّ ما تبلغون به محبّة الله، بإخلاصِ العمل لله، ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.