أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم فتحدث فضيلته في خطبته الأولى عن الصبر على المحن فقال: إن من سنن الله على عباده أفرادا وجماعات، أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم، ويبتليهم بالمحن والإحن وشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات تمحيصا منه وامتحانا، ليميز الصابر من الساخط والعامل من القاعد، فمن صبر فيها ربح وعلم أن كلا من عند الله، وأنه رب ضارة نافعة ورب منح في طيات محن، ومن سخط فيها فله السخط والخيبة في الحال والمآل، فإن من علامات التوفيق في المحن الخروج منها بحال أحسن من التي قبلها من الإيمان بالله والوعي والإدراك والاتعاظ، وإن من تلكم الابتلاءات عباد الله، ما حل بعالمنا اليوم من هذه الجائحة الصحية، التي جرحت بمخالبها جسد العالم أجمع، فكان لها خلال عامين متتاليين انعكاسات سلبية في الصحة والاقتصاد والتعليم وسير الحياة العام، لقد أربكت تلكم الجائحة العالم بأسره على ما فيه من قوة ومنعة وتمكين، وإننا إبان ترقب أفولها بإذن أرحم الراحمين لينبغي لنا ألا نهن بعد الجهود التي بذلت في رفعها، وألا نستخف بمتحوراتها المتجددة التي تباغت العالم حينا تلو آخر، بل يجب علينا أنستصحب فيها التوكل على الله مع فعل الأسباب إذ هما أسان رئيسان في أبجديات مكافحتها، فإن التوكل على الله جل شأنه لا يحجب الأخذ بالأسباب المشروعة، وإن الأخذ بالأسباب لا يخدش التوكل بل إنه ضرب من ضروب طاعة الله التي أمر باتخاذها، مع الإيمان بأنها ليست مستقلة بنفسها، وإنما مسببها هو الله جلت قدرته، وهي والتوكل عباد الله كجناحي الطائر للاستقرار في جو الرضا بالله والعمل والارتقاء، فلا أخذ بالأسباب دون توكل، ولا توكل دون أخذ بالأسباب، والموفق من أحسن الجمع بينهما؛ لأن الأخذ بالأسباب دون توكل غرور ماحق، والتوكل دون الأخذ بالأسباب قصور ظاهر.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض السلف، قولهم: بأن التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا قدح في العقل، والإعراض عن الأسباب قدح في الشرع.
ولا عجب في ذلكم عباد الله فإن الله جل شأنه قد قرن معجزات الأنبياء بالعمل أخذا بالأسباب، فقد قال لنوح عليه السلام(واصنع الفلك بأعيينا ووحينا)،وقال لموسى عليه السلام(اضرب بعصاك البحر)،وقال له أيضا(أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء)وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)،ولقد مكن الله ذا القرنين وآتاه من كل شيء سببا، ولم يكن ذلك مانعه من فعل الأسباب حيث قال(ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما).
ثم تحدث فضيلته عن الأخذ بالأسباب فقال: إن الأخذ بالأسباب من لوازم العيش في هذه الحياة دينا ودنيا، وإن التهاون فيها قعود مردٍ وتوكل خداج، وقد روى مسلم في صحيحه أن ربيعة الأسلمي رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :” أو غير ذلك، قال ربيعة: هو ذاك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأعني على نفسك بكثرة السجود”.
فانظروا يا رعاكم الله كيف طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم فعل السبب مع أن دعاءه صلى الله عليه وسلم مستجاب.
وقد روي ابن أبي الدنيا عن معاوية ابن قرة قال : لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ناساً من أهل اليمن فقال من أنتم ؟ قالوا نحن المتوكِّلون ، قال : ” بل أنتم المتواكلون ؛ إنما المتوكل الذي يلقي حبَّه في الأرض ويتوكل على الله عز وجل ” .
ثم اختتم فضيلته خطبته الأولى بنصح الناس بالابتعاد عن الشائعات والأخذ بالسبب والتوكل على الله في أخذ سبب العلاج من الداء فقال: فإن من أهم ما ترفع به تلكم الجائحة الجاثمة بعد الله تعالى فعل الأسباب تجاهها، وإن من أنجع الأسباب لذلكم الرفع فعل سبب التداوي بأخذ اللقاح المختص بها، كيف لا وقد أقره خبراء العالم المختصون، وتبنته المنظمات الصحية العالمية والمحلية، واعتمدته الدول والحكومات التي يتعذر أمامها التردد أو التشكيك فيها؛ فلأجل ذلكم يتعين على الناس جميعا في هذه المرحلة رفع سقف الوعي وإحسان التعامل مع الأزمة والخروج منها بأقل الأضرار، لأجل أن يدركوا بأن تتبع الشائعات المشككة، والإرجاف المروع، والتخذيل المثبط لهي أكبر معوقات إنهاء الجائحة الفاتكة، إنها شائعات يشكك بها مشيعوها في لقاحات الجائحة دون بصيرة، وإنما دافعهم في ذلك الانقياد للتهويش، والاستسلام للتشويش والتأثر بالتهويل، ما جعل المترددين في أخذ تلكم اللقاحات يبنون ترددهم على خيوط تلك الإشاعات التي هي أوهى من بيت العنكبوت، لا خطام لها ولا زمام، فهم بذلك يعطلون إتمام رفع الجائحة بالأسباب التي هيأها الله لعباده فضلا منه ورحمة.
إن الانقياد وراء الشائعات يضر ولا ينفع، ويؤخر ولا يقدم، ويفرط منظومة الوعي فيتطاير خرزها ولات ساعة نظم محكم، فإنه ما دخلت الشائعات في مجتمع إلا شانته، ولا نزعت منه إلا زانته، ولو لم يكن من أضرارها إلا التشكيك في الجهود والدراسات المعتمدة لكفى، وإن تعجبوا عباد الله فعجب أولئك المشككون في اللقاحات، كيف يقدحون في إجماع عالمي على نفعها، ويزداد العجب حين لا نرى لأولئك المشككين تحوطات في لقاحات الأدواء الأخرى كما نراه لهم في التحوط للقاحات هذه الجائحة، فإننا نجدهم يأخذون من الأدوية ذات الآثار السلبية دون سؤال أو احتياط، وربما أخذوا ولا يبالون لقاحات ليست في درجة لقاحات الجائحة من حيث المصداقية والاعتماد، فهم يعمون عن كثير من إهمالهم وممارساتهم الخاطئة في الغذاء والصحة وغيرها، ويتنطعون في لقاح الجائحة، لا يبصرون الجبل الماثل أمام أعينهم، ويحدقون بأبصارهم للقذاة في العين، فحال مثل هؤلاء كحال من يتساهل في الدماء ويسأل عن قتل البعوض في الحرم، عافانا الله وإياكم من العجز والكسل والأهواء والأدواء.
ثم تحدث فضيلته في خطبته الثانية عن أنَّ انتهاء الجائحة مرهون بأخذ الناس للقاحات فقال : واعلموا أننا بحمد الله نرى بوادر انحسار تلكم الجائحة باديا على الأبواب إن مضى الناس على فعل ما يجب، وما علينا جميعا إلا أن نكون يدا واحدة في تشييع تلكم الجائحة خارج واقعنا إلى غير رجعة بإذن الله، ولن يكون ذلك إلا بشعورنا جميعا بالمسؤولية، فلن يعود عمل متكامل بعد الله إلا بتعاوننا ووعينا، ولا تعليما متكاملا إلا بالمبادرة باللقاح، ولا عودة لتجارة متكاملة ولا معيشة متكاملة دون هذا الشعور المتكامل، فالله الله في أنفسكم عباد الله وفي مجتمعاتكم، فإن كل واحد منا يعد لبنة من لبنات بنيان المجتمع المرصوص، فحذار أن تهتز أركانه بإهمالكم، وإياكم و الاغترار ببوادر انحسار الجائحة وقرب الوصول، من خلال إهمال الاحترازات المصاحبة، واتقاء أسباب انتشارها حتى تطأوا خط النهاية بأقدامكم؛ لئلا نرجع إلى الوراء خطوات كثيرة بتفريطنا قبل التمام، واغترارنا برؤية النهايات قبل بلوغها.
ثم اختتم فضيلته خطبته الثانية بالحديث عن ما منَّ الله به علينا في بلادنا أثناء الجائحة فقال: وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن من قلب بصره يمنة ويسرة أدرك حقيقة ما من الله به علينا في بلدنا الطيب من امتياز بارز في مدافعة هذه الجائحة، وتلك نعمة تستوجب الشكر لله أولا على هذا التوفيق(وما بكم من نعمة فمن الله)ثم الشكر بعد فضل المنعم موصول لكل من له يد في مدافعتها ممثلة في قيادة هذه البلاد وفقها الله، ثم في وزاراتها ومؤسساتها، ومتطوعيها أفرادا كانوا أو جماعات، فإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس، وفي الحديث الصحيح: “ومن أتى إليكم معروفا فكافِئوه فإن لم تجدوا فادعوا لهُ حتى تعلموا أن قد كافأتموهُ”.