أم المسلمين اليوم الجمعة في المسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل غزاوي فتحدث فضيلته في خطبته الأولى عن سماحة ديننا الحنيف فقال : لقد أكرمنا الله بهذا الدين الحنيف واختار لنا شرعاً سمحاً ميسراً، لا مشقة فيه ولا عسر، وهذا من مظاهر عظمة هذا الدين قال تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) فما أمر الله سبحانه وألزم إلا بما هو سهل على النفوس لا يثقلها ولا يشق عليها، ثم إذا عَرَضَ بعض الأسباب الموجبة للتخفيف، خَفّف ما أَمَر به إما بإسقاطه أو إسقاط بعضه. وقد أكد – صلى الله عليه وسلم- على سماحة هذا الدين ويسره بقوله (أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة) .
وتحدث فضيلته عن أن فهم الدين يكون في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : وإذا ما تساءلنا ما السبيل لفهم يسر الإسلام وسماحته؟ فالجواب: إنه لا يمكن فهم ذلك حقا إلا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فخير الهدي هديه، وقد جعله الله على شريعة تتسم بتحقيق المصالح وموافقة الفطرة وإمكان العمل بها وامتثالها فقد جاء في حديث الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي – صلى الله عليه وسلم- فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها فقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) . وهكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسط بين الإفراط والتفريط .
وحذر فضيلته من أعداء الدين الذين يدعون إلى التشدد في الدين فقال : لقد استقر في أذهان بعض الناس أن في الدين صعوباتٍ وتشديدات، وهي فكرة يروج لها أعداء الدين ويزعمون أن الدين الإسلامي هو القيد والأغلال التي أخّرت الأمة الإسلامية وقعدت بها، ويتلقف هذه الدعوى الجائرة أتباع لهم ويشيعونها بين الناس، فتأتي الأحكام الشرعية ومصالحُها ومنها أحكام الصيام وحِكَمُه لتدفع تلك الفرية الظالمة وتبينَ عوار تلك التهمة الزائفة وتعلمَنا أن الدين يسر وأن الله لم يكلف العبد بشيء إِلا وجعل له فيه تيسيرًا ورفع عنه فيه الحرج وكيف لا تكون أحكام الشرع كذلك والله أعلم بما يتلاءم مع النفس البشرية وما يصلح العباد، وهو سبحانه أرحم بهم ففرَض الصومَ على المسلمين كما فرضه على الذين من قبلهم لما فيه من الفوائد والمصالح الدنيوية والأخروية وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يتدرج هذا التشريع في مراحل وكانت آخرُ مراحله الترخيصَ بالإفطار في حال المرض الذي يشق معه الصيام والسفر ثم يقضي بعد رمضان صيام أيام معدودة عدد ما أفطره، كما قال سبحانه (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) كما أن أيام الصيام معدودة لا تزيد عن ثلاثين يوما، فهو شهر واحد من بين اثني عشر شهراً وهو من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس وليس اليومَ كاملا فانظروا -رحمكم الله- كيف أن الله لم يكلفنا عنتا ولم يأمرنا بما لا نُطيق، ومع هذا فمن الناس من يتلاعب بأحكام الشريعة ويأخذ من الدين ما يهوى ويترك ما لا ما يوافق هواه، وتصل به مسألة اليسر إلى أن يَخرج بالشريعة عن معناها وحدودها فيحتالَ على أحكام الشرع، وهذا من صور الاستهزاء ومن طريقة بني اسرائيل الذين أحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل وآمنوا ببعض ما أمروا به وكفروا ببعضه فعاب الله عليهم بقوله (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) كما أن من كمال الشريعة وعظمتِها استيعابَها لجميع الأحكام بما في ذلك أحكامُ الصيام ونوازلُه وجميع ما يَجِدُّ في أحكامه كلِّها.
واختتم فضيلته خطبته الأولى عن تفضيل الله هذه الأمة بحفظ الدين لها من التبديل والتحويل فقال: ومن الأمور التي نستفيدها من شهر رمضان تميزنا بعقيدتنا وشريعتنا عن غيرنا، قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) فبدل أهل الكتاب وحرفوا ما أمرهم الله به وفرضه عليهم من الصيام وغيره وعصم الله هذه الأمة من التغيير والتبديل في أحكام دينها.
ومن الأمور التي نستفيدها كذلك في رمضان أن يربي العبد نفسه على الإخلاص؛ قال صلى اللَّه عليه وسلم: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)؛ فمعنى إيمانا أي إيماناً بالله ورسوله وتصديقاً بفرْضِيَّة الصيام وما أعد الله تعالى للصائمين من جزيل الأجر. ومعنى احتسابا أي طلباً للأجر والثواب، بأن يصومه إخلاصاً لوجه الله تعالى، لا رياءً ولا تقليداً، ولا غير ذلك من المقاصد.
والصيام فرصة سانحة لتربية النفس على قوة الإرادة وتقوية وازع الإيمان؛ فالعبد يقهر نفسه ويصبر على الجوع والعطش والشهوة وفي هذا ترويض للنفس على ترك مألوفاتها، كما في الحديث القدسي (يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي) .
واستهل فضيلته خطبته الثانية بنصح المسلمين بالإقبال على الله فقال : إنه لا شيء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، واشتغاله بذكره، وتنعمه بحبه، وإيثاره لمرضاته، بل لا حياة له ولا نعيم ولا سرور ولا بهجة إلا بذلك، وإن الله سبحانه إذا أحب عبدا استعمله في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال وإذا مقته استعمله في الأوقات الفاضلة بسيء الأعمال ليكون ذلك أوجع في عقابه وأشد لمقته لحرمانه بركة الوقت وانتهاكه حرمة الوقت فالحذر الحذر عباد الله من الغفلة والإعراض عن الله تعالى بل علينا أن نجدَّ ونجتهد فنريَ الله من أنفسنا خيرا في هذه الأيام والليالي المباركة ونقبلَ على التوبة النصوح ونتعرضَ لنفحات الجليل ونضربَ بسهم في كل عمل صالح مستطاع وأن نكثر من ذكر الله ونحافظَ على الصلوات المفروضة، ولا نفرطَ فيها أو نتكاسلَ عنها ونحرصَ على الصدقة وبذل المعروف والمساهمة في أوجه الخير والمشاركة في أبواب البر؛ استثمارا لما بقي من أيام شهرنا الذي انقضى ثلثه ولنقبل على كتاب ربنا تلاوة وتدبرا، فالقلوب تصفو والنفوس تزكو بالإقبال على الصلاة وقراءة القرآن وسائر الطاعات. ولنغتنم لياليَ الشهر، مستشعرين ما في ذلك من فضل وعظيم أجر كما قال صلى الله عليه وسلم: (مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ)، ولنسع في قضاء حوائج المحتاجين وتفقد أحوال المساكين فرمضان موسم المتصدّقين، وفرصة سانحة للباذلين والمعطين يقول الشافعي رحمه الله: “أُحِبُّ للرّجل الزّيادةَ بالجود في رمضان، اقتداءً برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ولحاجة النّاس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصّوم والصّلاة عن مكاسبهم” ولنبادر عباد الله بنفع غيرنا بكل أنواع النفع، وأعظمه دلالتهم على الخير ونصحهم ويدخل فيه تعليم الجاهل، وإرشاد الضال، ووعظ العاصي وتنبيه الغافل، وتذكير الناسي. وأولى الناس بالنفع والإفادة وإسداء المعروف رعية المرء، فتعاهدوا عباد الله أهليكم وأبناءكم وبناتكم ومن تحت أيديكم بالإحسان إليهم والنصح والتوجيه والسعي في استصلاحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع الرفق واللين وإشعارهم بمحبتكم والإشفاق عليهم وحضهم على فعل الخير واغتنام الأوقات والبعد عن المفاسد والمنكرات وتحذيرهم من رفقاء السوء والعلاقات المحرمة والقنوات والمواقع والمنتديات غير النافعة التي تعود عليهم بانحرافات عقدية وفكرية وسلوكية وأضرار أخلاقية وتربوية واجتماعية.
واختتم فضيلته خطبته الثانية بتحذير المسلمين من إضاعة الوقت في رمضان فقال: إن مما يعكر صفو رمضان ويذهب روحانيته ويمحو أثر العبادة إضاعةَ الأوقات في أيامه ولياليه بالمعاصي والتوافه والملهيات ومالا فائدة فيه، فإطلاق اللسان بالكلام المحرم والاستماع إلى الحرام والنظر إلى الحرام، كل ذلك يؤدي إلى مضرة قلب العبد وفساده والانشغال عما ينفعه. فيامن دعته نفسه لاقتراف السيئات في شهر المغفرة وتكفير الخطيئات، اتق الله ربك واستحي من نظره إليك فلا تعصه وتخالفْ أمره وقد أكرمك ببلوغ رمضان وأنت صحيح معافى بينما هناك من حال الموت بينه وبين بلوغ الشهر فلم يدركه، وهناك من أدركه لكنه عاجز عن الصيام والاغتنام ثم أين أنت من استشعار النداء الرمضاني المبارك العظيم (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر).
يا عبد الله يامن وقع أسير شهواته يامن عصى الله في خلواته، يامن أيام عمره معدودة وأنفاسه محدودة يا كثير التفريط في قليل البضاعة، يا شديد الإسراف، يا قوي الإضاعة، كأني بك عن قليل ترمى في جوف قاعة مسلوبا لباس القدرة وبأس الاستطاعة وجاء منكر ونكير في أفظع الفظاعة وأمسيت تجني ثمار هذه الزراعة وتمنيت لو قَدِرت على لحظة لطاعة وقلت (رب ارجعون) ومالك كلمة مطاعة، فأدرك نفسك وأعلن التوبة عن تلك الآثام هذه الساعة.