أمّ المصلين في خطبة الجمعة بالمسجد الحرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم وتحدث فضيلته في خطبته الأولى عن رحمة الله بخلقه وأنه لم يخلق لوحده فقال : إن الله لم يخلق الإنسان في معزل عن بني جنسه لا يخالطهم أو يتعامل معهم أخذا وردا وبيعا وشراءا، وحبا وبغضا ورضى وغضبا وإحسانا ومكافأة، بل إنه من جملة الناس الذين خلقهم الله وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، يحب ويكره ويأخذ ويعطي ويبيع ويشتري ويهدي ويهدى إليه، ويرد ويرد عليه وهلم جرا في كل ما هو من طبائع البشر ومعاملاتهم التي خلقهم الله عليها، غير أن ذلكم كله يستوجب على المرء في تعامله مع الآخرين أن يستحضر أسسا وقواعد ومعايير ينبغي ألا تغيب عن باله، وألا تكون في منأى عن تفكيره وسلوكه؛ لئلا يقع في الزلل معهم أو الحيف أو الاضطراب في تطبيق تلك المعايير تجاههم إن هو أحسن ذلكم، وإلا وقع في وحشة بينه وبينهم، فتكبر عليه نفسه ويضيق قلبه لما يجب أن يكون متسعا له فلا يسلم حينئذ من غائلة التنافر والتنابز والشحناء، ولا يمكن أن يحقق في نفسه القسط والاعتدال مع الآخرين إلا بأن يهيئ نفسه بمجاهدتها في تصحيح نيته بينه وبين ربه قبل كل شيء، ثم بينه وبين الناس، وذلك بتحقيق الإخلاص لله عزّ وجل المقرون بمتابعة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ليفوز بمحبة الناس له بعد محبة الله من خلال توفر هذين العنصرين عملاً بقوله تعالى(ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قال الفضيل بن عياض: أي أخلصه وأصوبه.
وقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا قال: والخالص إذا كان لله عزّ وجل، والصواب إذا كان على السنة.
وتحدث فضيلته عن إخلاص نفسه من الشوائب فقال : وباستحضار هذا المعيار عباد الله يتم للمرء تصفية إخلاصه من الشوائب التي تعكر صفوه كالبحث عن مصلحته على حساب غيره، وكذا مكامن الشهرة الخفية والإعجاب بالنفس واحتكار الصواب له دون غيره، والرغبة في الثناء والذكر، والتماس رضا العامة أو الخاصة، والتي اصطلح علماء النفس المعاصرون على تسميته اعتبار الذات، ومن أهم ما ينفع في هذا المجال هو الرجوع إلى معيار موضوعي غير ذاتي من خلال إجراء محاكمة منطقية توضح مدى النتيجة العملية النافعة لتصرفاته مع الآخرين، ومن استفتى قلبه خطم هواه، ومن استحضر في فكره معنى الناس لم يستأثر بمعنى نفسه.
وبناء على ذلكم ينبغي للمرء أن يسلم بأن الآخرين ليسوا معصومين من الخطأ ولا من الاجتهاد الخاطئ، أو الزلل غير المقصود، بل هم بشر مثله يعتريهم ما يعتريه من خطأ وصواب وزين وشين وغضب ورضا، فكان لزاما عليه أن يستحضر في نفسه حقيقة أن الخطأ يذوب في بحر الصواب، وأن السيئة تذوب في بحر الحسنات كما قال الله في كتابه العزيز (إِن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين).
وأكمل فضيلته خطبته الأولى بأن الكمال لله وحده والانسان ليس معصوماً من الخطأ فقال: ولذا فإن النظر في ماهية الخطأ ومدى فداحته وضرره في مقابل النظر إلى عموم المحاسن التي تستر هذا الخطأ وتذيبه لهو سبب في تجاوزه واغتفاره، فالكمال لله وحده، والعصمة لرسوله صلى عليه وسلم ، وكل الناس خطاؤون وخير الخطائين التوابون؛ لذا كان من حق الآخرين على المرء المسلم أنه إذا وجه إليهم لوما أو نقدا أو خصومة ألا يكون على صورة تعيير أو تشهير أو شماتة أو انتقائية أو إقصاء، بقطع النظر عن ماهية ذلكم النقد والخصومة ومدى قربهما من الصواب أو الخطأ؛ لأن مثل هذا الباب لو فتح على مصراعيه لادعى كلُّ ناقد دعواه وكل لائم لومه بما لا طائل من ورائه؛ لذا وجب سد الباب أمام نقد الحاقد ولمز الحاسد، فهما ينظران بعين العداوة والتشفي لا بعين العدل والإنصاف، فيجعلان المحاسن مساوئا والمحامد مكارها، ولا حيلة حينئذٍ فيمن هذه حاله؛ إذ لا ينفع معه البيان ولا يقنعه إلا الاعتذار عن المحاسن التي يعدها ذنوبا، وهذا الصنف من الناس يصعب علاجه، بل إن الناس يتقونه ويسلكون فجا غير فجه الذي يسلك فيظل كالقاصية من الغنم تأكلها ذئاب الفكر المنغلق والعقول المغلفة عافانا الله وإياكم.
واختتم فضيلته خطبته الأولى بحديثه عن العدل والظلم فقال: وقد ذكر بعض أهل العلم أن الآيات القرآنية في تقرير عنصري العلم والعدل وتأكيدهما تربو على ثلاثمائة آية، نَوعَ الله فيها العِظة وفصّلها أمرا ونهيا، وقصصا وضرب أمثال؛ ما يدل على أهمية هذا المنهج وعلى موقعه بوصفه أساسا كبيرا في التعامل مع الآخرين والحكم على تصرفاتهم؛ ففي تصور عنصر العلم نجد الأمر ظاهرا من خلال قاعدة أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وذلك لأجل أن يتوفر لدى المرء معرفة حكم الشئ ومعرفة وقوع هذا الحكم ليكون بابا إلى الصواب، وفي تصور عنصر العدل، يكون المرء على ذكر من الأسلوب المتبع في القرآن الكريم كما في قوله تعالى(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقربُ لِلتقْوى)قال ابن كثير: أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقا كان أو عدوا.
وقال بعض السلف: ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، والعدل به قامت السموات والأرض.
ويشهد لهذا التفسير الآية السابقة في أول السورة وهي قول الله تعالى(ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجدِ الحرام أن تعتدوا)،قال ابن كثير: أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام -وذلك عام الحديبية- على أن تعتدوا في حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد.
فالعدل إذا في المنهج الإسلامي عباد الله: ذو معنى مطلق لا تحكمه النسبية فإن المرء لا يكون عادلا ظالما في آن واحد فهو إما عادل وإما ظالم.
واستهل فضيلته خطبته الثانية عن التعامل مع الاخرين بإتباع القرآن الكريم فقال: أنه ينبغي للمرء في تعامله مع الآخرين ونظرته إليهم عند الاقتضاء أن يكون على ذكر من المنهج المتبع في القرآن الكريم في عدم التعميم حال النقد أو التخطئة، ملاحظا أن التعميم في كثير من الأحيان ينافي الإنصاف ووضع الأمور مواضعها، والشعار في هذا كله هو العدل والقسط، فلا غلو في الإطراء حال الرضا، ولا إفراط في القدح حال الشنآن والخصومة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم “رواه مسلم، والمعني أي هو أشدهم هلاكا.
واختتم فضيلته خطبته الثانية بتحذير الناس من الحكم على الناس حسب الهوى فقال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أخبركم بالفقيه كل الفقه؟: من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ولم يدع القرآن رغبة إلى غيره.
ومقبض الرحى في ذلكم كله هو إحكام الهوى عن أن يميل لكفة دون أخرى بمجرد الهوى والمزاج، ولهذا قال الله تعالى(فلاَ تتبعُوا الْهوى أنْ تعْدِلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا).
كما أنه ينبغي للمرء في تعامله مع الآخرين أن يعتمد على مصادر صحيحة ثابتة لا لبس فيها؛ ليتفادى اتباع الظن، أو الاستناد إلى الإشاعات، أو الانخداع بالإثارة عبر وسائل التواصل بشتى صورها، وما تنشره من أخبار أو تعليقات مبنية في حالات كثيرة على الظن والكذب والخرص والجزاف، والهوى والتحيز، والتهييج والإثارة، وكسب السبق في الطرح وجذب القراء والمشاهدين والمستمعين.
ولذا فإن المرء الحصيف يتعامل مع مثل ذلكم بحذر بالغ؛ ليسلم من غوائل تلكم الوسائل، وينجو من مغبتها، ومن المقرر بداهة أن السلامة لا يعدلها شئ، بل هي تسعة أعشار العافية.