من هي؟ هي الطائف حديث الروح صوت مستجاب
“شام” (1) الجهات وقبلة التايه وظل المهتدي
الطائف أحلى سمها طفلة مراويح السحاب
الطائف أغلى سمها عطر الكلام الأبجدي
الطائف العرعر غصون السدر رايحة الشذاب
الطائف أحلام الطفولة والبساط الأحمدي
الطائف الدر وشذاه وسكرة أشفاه الصحاب
الطائف اللقيا أو الرؤيا دلع ريم وغدي
الطايف التاريخ والجغرافيا فصل الخطاب
الطايف الحلم انتصار العلم عمرٍ مبتدي
الطايف أشعار “الحميدي”(2) حلم “عواض”(3) اغتراب
“عبد الغني” (4) في شارع المثناه ياقف ويعدي
الطايف إحدى القريتين الله ذكرها في الكتاب
منها، لها، فيها، بها عاش ألوفا بيت أجودي
الطايف الماء والسماء والحب والسحر المذاب
كينونة الشاعر ليا غنت حروفه للجدي
الطائف أحلى قلتها وترابها ماهو تراب
ترابها تبر وزمرد، در ياقوت بيدي
الطائف أشفاه الرواة ولا على الراوي عتاب
لو هام فيها وانسحر معذور والله يبعدي
الطائف أحلى ذاكرة كل المدن، مليون باب
يفتح لذاتك واتجاهاتك صباحِ سرمدي
الطائف أحلى حكمة الشيخ وفتوات الشباب
الطائف أحلى يوم مولدها تأرخ مولدي
الطائف غياب الحضور، الطائف حضور الغياب
الطائف الصمت المبجل كلنا به نقتدي
الطائف إحساسِ صعد بي لين ذوبني وذاب
في الضئ نبض حي يكتبني ويكتب موعدي
*****************
شام / في رواية أن الطائف قطعة من الشام |
الحميدي/ الشاعر الكبي الحميدي الثقفي |
عواض/ الشاعر الكبير
والروائي عواض العصيمي |
عبد الغني
شاب من أبناء مدينة الطائف بحي المثناه، نشأ قدرةً عقليةً جبارةً وخارقة للعادة، وبفعل الضغوط والظروف الحياتية أصيب هذا الشاب بانفصام في الشخصية، فأصبح يهيم على وجهه في شارع المثناه، لاعينٍ تراقبه، ولا أفواه تخاطبه.
|
************************************
ليس جديدًا أن تجود قريحة أيِّ شاعرٍ بقصيدةٍ أو أكثر في وصف مدينته أو قريته، وليس عجبًا أن يجعل كثيرٌ من الشعراء عربًا وعجمًا حبهم وعشقهم لأوطانهم مادةً خصبةً لشعرهم منذ فجر الخليقة وحتى تقوم الساعة، ومدينة (الطائف) ليست بدعًا من المدن في هذا الجانب، فقد قيل ومازال يقال فيها الكثير والكثير من الشعر الفصيح والشعبي، وقد وثق وجمع الأستاذ (حماد السالمي) مشكورًا قبل عقدين من الزمن تقريبًا ما أمكنه جمعه من شعر قيل في الطائف، ونشره في معجم كبير الحجم جاء في ثلاثة أجزاء سماه (شوق الطائف حول قطر الطائف).
ولكن الجديد الذي أتى به الشاعر (ردة السفياني) في النصِّ أعلاه، هو تفرده في وصف وتعريف معشوقته بلغةٍ شعريةٍ وصورٍ بديعةٍ ليست مسبوقةً، وأحسبها جديدةً على أذن المتلقي إذا قورنت بما ألفته الذائقة من تناول معظم الشعر الذي قيل في الطائف لورد الطائف ورمانها وعنبها، وطيب هوائها، وعبق آثارها.
السفياني لم يتطرق لشيءٍ من ذلك كله، فالنصِّ رغم طوله النسبي لا تجد فيه أدنى إشارةٍ إلى ورد الطائف رغم أنَّه سمةٌ وميزةٌ ومزيةٌ لهذه المدينة، وأصبح بمثابة الـــــ (لوجوLogo )؛ العلامة التجارية التي تعرف بها هذه المدينة عالميًا.
كما أنَّ السفياني بنفس الطريقة تجاهل أيضًا (رمان الطائف) الذي تغنى فيه مطربون ومنهم (فهد بلان) رحمه الله تعالى في أغنيته الشهيرة (رمان الطائف) والتي يقول فيها:
“رمان رمان الطائف رمان رماني
لوح لي لوح لي بعوده لوح ورماني”
وهذا الرمان فتن به قديمًا الشاعر اللبناني الكبير الراحل (فؤاد الخطيب)، الذي زار الطائف ذات صيفٍ، فقال فيه:
” أنا في «الطائف» أستوحي الشعورْ
إن في «الطائف» بعثاً ونشورْ
أحيت الأحداق في نرجسها
وأعادت في الأقاحيّ الثغور
ولقد حدّثني رمّانها
أنه كان نهوداً في الصدور
وروى لي البان عن أعطافه
أنه كان قدوداً وخصور”
أترى شاعرنا (ابن الطائف) نسي ورد الطائف، ونسي أيضًا رمانها وعنبها؟ وهل خذلت الشاعر ذاكرته، فلم يضمن قصيدته الفريدة هذه: (اعتدال ولطافة جو الطائف صيفًا)، والذي جعل منها مصيف المملكة الأول، ومهوى سياحٍ من دول الخليج العربي، ومن بعض البلدان المجاورة. ولهذا السبب أيضًا كانت العاصمة الصيفية للوطن قديمًا؟
أسئلة حيرى مفضيةٌ إلى مزيدٍ من الأسئلة شأنها شأن كل الأسئلة العميقة. وقد يجوز لنا خلع شيءٍ مما وصف به الشاعر (عبد الرحمن بن مساعد) حبيبته وعشيقته المذهلة في نصه البديع (مذهلة) على قصيدة السفياني التي هي أيضًا “مذهلة”:
“مُذهلة … تملأك بالأسئلة”!
وهل يمكن أن تجيبنا محاولة اقتراب عوالم القصيدة على أسئلة كهذه؟ لنحاول فنرى.
السفياني في كل قصائده، ومن ضمنها هذه القصيدة نجده نسيج وحده، يغرد خارج سرب العادية، ويمقت التكرار، ويراهن على شاعريته في أن تسعفه دوماً بالجديد والمثير والمختلف والفريد، فقلَّما تجد عنده معنى مكرورًا، أو صورةً مبتذلةً. ولذا فعند ما وصف الطائف، مضى قدمًا إلى حيث لم يمض أيُّ شاعرٍ قط، ولم يبدأ من حيث انتهى الشعراء الآخرون، بل بدأ من حيث لم يفكر أن يبدأ أيُّ شاعر. وهذا السبب في نظري هو الذي جعل السفياني مقلًا في نتاجه الشعري، مترددًا في طباعة ديوانٍ ونَشْرِهِ رغم أنَّه يتعاطى غواية الشعر منذ أكثر من ربع قرن، وما ذلك إلا لأنه يحترم الشعر كثيرًا.
ما من شاعرٍ كتب في الطائف نصًا إلا ضمنه -كما أشرت آنفًا- وردها ورمانها وعنبها واعتدال جوها، غير أنَّ السفياني سلك بنا عبر قصيدته هذه مسلكًا آخر تماهيًا مع فلسفته الشعرية في التميز والتفرد والاختلاف.
وليس ما ذكرت آنفًا من رغبة الشاعر في التفرد والاختلاف والتميز هو السبب الوحيد لهذا الأمر فقط، بل أزعم أنَّ ثمَّة سببًا آخر لا يقل وجاهةً عنه وهو أنَّ غياب أو تغييب (الورد) و (الرمان) و (العنب)، وكذلك (اعتدال جو الطائف) صيفًا أمرٌ مقصودٌ، وموظفٌ من الشاعر أيمَّا توظيف. وإلا فإنه من غير المعقول نسيان هذه الأيقونات الفريدة التي تمثل الطائف، لكن الشاعر تعمد تغييبها ونسيانها وتجاهلها لسببٍ فنيٍّ ومقنعٍ وهو أنَّ هذه الأيقونات ليست دائمةً، بل متغيرةٌ مثلها مثل زهور (الخشخاش) و(شقائق النعمان) تزهر يومين أو ثلاثة فقط، ومن ثم تمضي كلها إلى أفولٍ، والشاعر لا يحب الآفلين.
شاعرنا مؤمنٌ بشاعريته، متيقنٌ من الخلود لقصيدته عبر الزمان، فرغب أن ينقش فيها ما هو خالدٌ وباقٍ. وكأني به يوحي لنا بتمنيه وتوقعه لقصيدته ومدينته سويةً الخلود، وعنوان القصيدة شاهد عدلٍ على ذلك: (مراويح السحاب)، فالسحاب بمشيئة الله تعالى باقٍ ما بقيت الحياة، وحركته مستمرة بالغدو والآصال، وما الطائف من وجهة نظر شاعرنا إلا طفلةٌ شرعيةٌ وُلِدَت من رحم (مراويح السحاب) الظاهر في سمائها جليًا في كل المواسم والفصول.
وإذا كان الشاعر ابن بيئته، ويتأثر إبداعه بها، نجد أن ولادة شاعرنا وبقائه معظم حياته قاطنًا في منطقة (الشفا) بالطائف ذات الارتفاع الشاهق الذي ترى من خلاله السحب الكثيفة صيفا وشتاء في غدوها ورواحها، قد أثرت فيه فعنوَّن نصه بـــــ (مراويح السحاب)، وللعلم فالناس في الشفا شأنهم شأن كل الناس في معظم المناطق الجبلية المرتفعة يرون السحاب قريبًا منهم، ويحسبون أحيانًا أنَّ بوسعهم القبض عليه.
يقول شاعر سفياني آخر يقطن منطقة الشفا، وهو الشاعر عيضة السفياني يجسد هذه الفكرة بقوله:
” اليا عطشت اطلع جبال الشفا فوق،
واشرب بكفك ماء من اقرب سحابه”
ولهذا لا نستغرب أن تسيطر فكرة أن الطائف طفلة للسحاب على شاعرنا، وتحظى بعنوانه.
ورد الطائف موسمه أسبوعان تقريبا من فصل الربيع، ورمان الطائف وعنبها واعتدال جوها صيفا -رغم كل ما في ذلك من جمالٍ وفتنةٍ، إلا إنها تؤدي رقصتها الساحرة على مسرح الطائف فترة من الصيف، ثم تعاود الاختفاء، وكأن شيئًا لم يكن.
ولهذا حالت شاعرية السفياني ومحبته لطائفه من أن يصفها بشيء يتلاشى ويزول، يأفل ويذبل ويتحول إلى آخر شكلًا وجوهرًا أو يتحول إلى لا شيء.
إذًا ما البديل الدائم الذي ارتضاه الشاعر وصفًا جديرًا يغني عن ورد الطائف ورمانها وعنبها، واعتدال جوها؟
لنتأمل القصيدة علَّها تجيب على هذا السؤال.
” من هي؟ هي الطائف حديث الروح صوت مستجاب
“شام” (1) الجهات وقبلة التايه وظل المهتدي”
“حديث الروح/ صوت مستجاب / شام الجهات / قبلة التايه / ظل المهتدي” هي معالم وسمات وفنارات تميز هذه المدينة، وهي خالدة خلود الإنسان.
حديث الروح باقٍ ما بقيت الأرواح. وهنا يتناص الشاعر مع عنوان قصيدة (حديث الروح) الشهيرة للشاعر (محمد إقبال) التي غنتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم، ومنها:
” حديث الروح للأرواح يسري | وتدركه القلوب بلا عنـاءِ
هتفت به فطار بلا جناح | وشق أنينه صدر الفضـاء
ومعدنه ترابي ولكن | جرت فى لفظه لغة السماءِ”.
أسطورة أنَّ الطائف قطعةٌ من الشام أتى بها جبريل عليه السلام وطاف بها حول الكعبة المشرفة، ثم ألقاها في موضعها هذا، أسطورةٌ خلدتها كتبٌ وأسفارٌ، قصصٌ وحكاياتٌ فبالتالي فهي باقيةٌ ما بقي الإنسان كما هو حال معظم الأساطير عبر تاريخ البشرية.
وهناك علاقةٌ تدرك بقليلٍ من التأمل بين مفردات (شام / الجهات / قبلة)، فالشام التي هي وفقًا للأسطورة أمٌ للطائف تقع إلى الشمال من الطائف. والبوصلة التي يهتدي بها المسافرون والتائهون تتجه بوصلتها دائمًا باتجاه الشمال، وبهذا تكون الطائف قبلةً لكل تائهٍ وضالٍ على اتساع المعنى، وتنامي الدلالة.
“قبلة التايه / ظل المهتدي” سمتان وصفتان قديمتان ومتجددتان للطائف بفضل كرم أهلها، ونبلهم وحبهم للغريب، ومساعدتهم لكل من يطلب المساعدة من زوار الطائف، وهنا لا بد من الإشارة والتذكير بمناقب وقيمٍ كان يمنحها الطائفيون لمن يمر بسوق عكاظ من الغرباء والأجانب، ويقومون على حمايتهم وسقايتهم ووفادتهم. ويقال إن الوفادة لحجيج بيت الله الحرام كان تقوم بها قديمًا قبيلة ثقيف الطائفية الشهيرة قبل أن يؤول ذلك الأمر إلى قبيلة قريش.
ومفردة (قِبْلَة) تتضمن معنى الديمومة والاستمرار والخلود.
” الطائف أحلى سمها طفلة مراويح السحاب
الطائف أغلى سمها عطر الكلام الأبجدي”
يوظف الشاعر عبارة (الطائف أحلى)، وهي عبارة اختارها القائمون على التنشيط السياحي بالطائف شعارا لأنشطتهم وفعاليتهم قبل ثلاثة عقودٍ من الزمن. ويكررها في نصه عدة مرات لأنها أصبحت بمثابة أغنيةً له.
زاد الشاعر على شعار السياحة بالطائف (الطائف أحلى)، شعارًا من عنده على نفس الوتيرة الإيقاعية: (الطائف أغلى)، لأن الطائف في نظر الشاعر ليست (أحلى) من غيرها فحسب، بل هي أيضًا (أغلى)، وربط الشاعر (غلاوة الطائف) بــــــــ (عطر الكلام الأبجدي). والكلام الأبجدي يرمز للكتابة، والكتابة خالدةٌ خلود الإنسان، ومَثَّلَ اختراعها مرحلةً فارقةً في حياة الإنسان وتاريخه وحضارته.
أليس الحجاج بن يوسف الثقفي هو واحدٌ من أبناء ورجالات الطائف المتعلمين، وقد خدم الأبجدية العربية عمومًا وكتاب الله خصوصًا أيَّما خدمة عندما أمر ووجه (ناصر بن عاصم) وهو أحد أهم علماء اللغة، بوضع النقاط الأساسية على حروف اللغة العربيّة.
ويواصل الشاعر تشبيه وربط (الطائف) بأشياء ثابتةٍ خالدةٍ، فيقول:
” الطائف العرعر غصون السدر رايحة الشذاب
الطائف أحلام الطفولة والبساط الأحمدي”
فــــــــــ (العرعر / غصون السدر / رايحة الشذاب / أحلام الطفولة / البساط الأحمدي) مكوناتٌ أساسٌ ورئيسةٌ في لوحة الطائف التشكيلية، فأشجار (العرعر) و (السدر) موجودةٌ في جبال الطائف وسفوحها بكثرةٍ، وهو من الشجر الصابر الصبور الذي يتحمل ظروف الطقس، وتغير المناخ، ويمكنه العيش حتى ولو تباعدت فترات نزول المطر. وله رائحةٌ مميزةٌ.
أما (الشذاب) فهو عشب زكي الرائحة تشتهر به الطائف، ويمكن زراعته بالمنازل أيضًا، في أيِّ وقتٍ من العام، وليس مرتبطًا بفصل معين، كما أنَّه نافعٌ بإذن الله تعالى في علاج أمراضٍ كثيرةٍ، وهو مطهرٌ جيدٌ، وتبخر به المنازل لطرد الأرواح الشريرة منها، وكذلك الحشرات والزواحف الضارة، واستدعاء الشاعر لرائحته في هذا النصِّ لفتةٌ شعريةٌ بارعةٌ حيث تكتسب (الطائف المكان) من الشذاب كل معاني الجمال فيه، ومنها طيب الرائحة، ومقدرته على الحفظ والوقاية من كل ما هو سيِّئٌ وشَرِيرٌ.
والسدرة شجرةٌ مباركةٌ ذكرت في القرآن الكريم، وفي اختيار الشاعر لها إلماحةٌ موفقةٌ لما هي مفعمةٌ به من حمولاتٍ ابتداءً من قوله تعالى في سورة النجم: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى. عِندَ سِدْرَةِ المنتهى. عِندَهَا جَنَّةُ المأوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يغشى)، ومرورًا بما ورد من آثار تشير إلى أنَّ استخدام ورق السدر فعالٌ بإذن الله تعالى في حل السحر باستعمال السدر، وانتهاء باستخداماته في علاج كثير من الأمراض، ناهيك عن رائحة ورق السدر المنعشة، وديمومة اخضرار أوراقها.
إذن غيب السفياني في نصه ورد الطائف الشهير برائحته الزكية، ليؤكد للمتلقي إنَّ ثمَّة نباتات وأشجار أخر ذات رائحة زكيةٍ بالطائف بجانب الورد كــــــالعرعر والسدر والشذاب.
(أحلام الطفولة / البساط الأحمدي) دلالتان تشيان بالطهر والبراءة والصدق والفطرية والتلقائية، فناسبتا والحالة هذه أن تكون وصفًا للطائف، ناهيك عن ديمومتهما في الفطرة الإنسانية التي جبل الله الخلق عليها مالم يفسدها الشيطان.
وعندما يعرف الشاعر أو يصف الطائف بأحلام الطفولة فهو يشير للاتساع والامتداد والشمولية والاحتواء والتجاوز فأحلام الطفولة عادةً ما تكون كبيرةً ممتدةً لا يحدها شيءٌ، ولم تقصص أجنحتها قساوة الواقع ومرارته.
” الطائف الدر وشذاه وسكرة أشفاه الصحاب”
الدُّر جمع (دُرَة) وهي اللؤلؤة العظيمة الكبيرة. وهذه من صور الطائف لدى الشاعر، واللافت هنا أنَّ الشاعر يجعل لهذا (الدر) شذىً، وهذا من (الخلع والتخالع) الإبداعي الذي يأتي فيه المبدع بصفةٍ ليست من صفات الشيء أصلًا، ويسقطها / يخلعها عليه. والشاعر بعد أن أشار لمصادر رائحةٍ في الأبيات السابقة، يأتي في هذا البيت ليصف الطائف بأنها درٌ، ويخبرنا بأنَّها ليست كغيرها من الدر بل هي درٌ ذو شذى، ويترك للمتلقي تخيل رائحة وعبق ذلك الشذى. وأحسبه يحتوي كل رائحةٍ زكيةٍ طيبةٍ في الطائف أيًّا كان مصدرها.
والطائف أيضًا (سكرة أشفاه الصحاب)، وهنا نلحظ انتقال الشاعر من الحديث عما يتعلق بحاسة (الشم) إلى ما يتعلق بحاسة (الذوق)، والمبدع بحقٍ هو من يوظف أكثر من حاسةٍ من الحواس في نصه لإيصال معناه، وملئه عمقًا وقوةً. الحديث عن الطائف وفيها، من وجهة نظر الشاعر هو مثل السكر يذوب بلذةٍ في شفاه الأصحاب، ولا يفوتنا التنويه إلى أن الشاعر تطرق للأبجدية في بيت سابقٍ التي تمثل الكتابة، وهنا يتطرق للكلام، ليقول لنا معشر المتلقين: ” الطائف حاضرةٌ في الكتاب والخطاب، ويزدان بها القلم واللسان بهاءً وجمالًا”. وجَمْعُ الشاعر في النصِّ بين (الكتابة) و (الحديث) زاده قوةً وعمقًا.
” الطائف اللقيا أو الرؤيا دلع ريم وغدي”
الطائف يراها الشاعر جمال اللقاء، وحميمية الالتقاء بين الأحبة والصِحَابِ، ويراها كذلك الرؤيا الحق التي تتجلى حقيقةً وتأتي مثل فلق الصبح، وهذا يأخذنا في تناص معنوي مع ما ذكره القرآن الكريم عن رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام التي جعلها ربَّه حقًا، وعن رؤيا رسول الله صلى الله عليه التي قال تعالى عنها: (لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا).
ويذكرنا أيضًا بأحاديث رسول الله صلى الله وسلم عن الرؤيا الصادقة، ومنها قول عَائِشَةَ رضي الله عنها: ” كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ. فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ).
فطائف شاعرنا رؤىً محققةٌ. والشاعر في جمعه بين (اللقيا) و (الرؤيا) يشير بذكاء إلى نوعين من الوقت؛ وقت للمتعة والراحة (اللقيا)، ووقت للجد والاجتهاد (الرؤيا)، فكلاهما ذو نكهةٍ خاصةٍ عندما يمارسان ويزاولان في الطائف من قبل أهلها أو من زوارها.
والطائف أيضًا هي براءة الطفولة، ويعبر السفياني عن ذلك بقوله: “دلع ريم وغدي”. (ريم) و (غدي) اسما طفلتين، يعزز هذا مفردة (دلع) التي سبقتهما. وهل هناك أجمل من دلع الزهرات الصغيرة يتباهين بجمالهن وبراءتهن. ذلكم هو الطائف.
و (ريم) اسمٌ شاعري يطلق على الغزال ريم، وهو اسم شاعري عربي أصيل فيه معنى الجمال والسحر، وهو يعني الظبي خالص البياض، جميل الشَّكل، رشيق القوام، خفيف الحركة جميل العينين، لذا كان حضور هذا الاسم في قصيدة عن (الطائف) موفقًا لتناغمه مع جمالها وسحرها.
أمَّا اسم (غدي) فهو من الغدو وهو الوقت من صلاة الفجر حتى طلوع الفجر، وهو وقت فاتن من أوقات اليوم حيث تبدأ الحياة مع تباشير الفجر، ومع زقزقة العصافير، وصداح البلابل. وناسب هذا الاسم الطائف، كما ناسب أيضًا عنوان القصيدة: (طفلة مراويح السحاب)، فالغدو مقابل للرواح. قال تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ).
ثمَّة جمالٌ للطفولة مزجه الشاعر بحرفيَّةٍ مع جمال الطائف، وجعل منهما جزءً واحدًا. ونلحظ هنا حضور الطفولة القوي في نص شاعرنا هذا وذلك في قوله:
” طفلة مراويح السحاب” و ” دلع ريم وغدي”. ويكفي عنوان القصيدة شاهدًا. كما أنَّ الطفولة تتضمن الفطرة والبراءة والأصالة والطهر، والشاعر يسقط هذه المعاني على معشوقته (الطائف) بإيجاز بلاغي وبياني.
ومن أبعاد تجلي الطفولة في النص أنَّه يتماهى مع (الطائف) الحاضر المتطلعة بشغفٍ وشوقٍ ولهفةٍ وأملٍ إلى المستقبل، شأنها شأن كل طفلٍ. الطائف مدينة لا تركن إلى سالف مجدها، وعبق تاريخها رغم وفرته وعظمته. وإشارة الشاعر ضمنًا إلى هذا الجانب، يميزه عن غيره من الشعراء الذين جاءت جلُّ نصوصهم عن الطائف متكئةً على تاريخها وماضيها التليد فقط.
” الطايف التاريخ والجغرافيا فصل الخطاب”
من نافلة القول إشارة الشاعر إلى تاريخ الطائف، لكنه يدمج تفرد ذلك التاريخ مع تميز جغرافيا الطائف، فكما أنَّ تاريخ الطائف غير كما يقال، فجغرافيتها أيضًا لا تشبه إلا نفسها.
عبارة “فصل الخطاب” تعني في اللغة: بيانٌ وقولٌ شافٍ وقاطع، وعندما يسقط الشاعر هذه الصفة على الطائف، فكأني به يذكرنا بأن في الطائف قديمًا وحديثًا من العقلاء والحكماء من يفصل ويبت في المنازعات والخلافات، ويصلح بين المتخاصمين، ولنا في سوق عكاظ قديمًا شاهد عدلٍ على ما نقول، وفي العصر الحديث نجد في هذا الاتجاه (اتفاق الطائف) الشهير الذي تبنته حكومة المملكة العربية السعودية بقيادة مليكها الفهد رحمه الله تعالى، واختارت له الطائف حاضنًا مثالًا يذكر فيشكر، وبموجب ذلك الاتفاق وضعت الحرب الطائفية اللبنانية الأهلية أوزراها، وتمت إعادة تعمير لبنان الشقيق، وكأن طاقة الطائف تجعل منها أرضًا خصبةً للإصلاح وإنهاء الخصومات.
ثقافة الشاعر القرآنية العميقة تحضر مرةً أخرى هنا في تناصه مع قوله تعالى عن سيدنا داود عليه السلام:(وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ).
” الطايف الحلم انتصار العلم عمرٍ مبتدي”.
يعزز الشاعر كون الطائف حلمًا جميلًا سواء في السكنى والإقامة بها أو في السياحة بأرجائها، أو من حيث أنّها أرضٌ باعثة على تحقيق الآمال والطموحات. كل ذلك وغيره تحتمله هذا الإشارة.
(انتصار العلم) مقابلٌ لــــ (هزيمة الجهل)، وللعلم كتاتيب ومدارس ومعلمين ، معاهد وكليات وجامعة حكاياتٌ بديعةٌ تضاف لتاريخ هذه المدينة العريق، ولعلي أشير هنا أن الطائف تحتضن قبر حبر الأمَّة عبد الله بن العباس رضي الله عنه، الذي قضى فيها جزءً من حياته يعلم ويفتي بفضل ما علمه الله تعالى استجابةً لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”، وغير عبد الله بن العباس هناك الكثير من العلماء، وفي العصر الحديث نجد نموذجًا علميًا مؤسساتيًا فريدًا بالطائف وهو مدرسة (دار التوحيد) بقسميها المتوسط والثانوي، التي أنشأها واهتم بها ودعمها، ودعم طلابها الملك المؤسس عبد العزيز رحمه الله تعالى، واختياره الطائف مأوى لتلك المدرسة المختلفة ينم عن أنَّها كانت أهلًا لذلك الثراء العلمي الذي كان ينشده المؤسس، وبالفعل خرجت تلك المدرسة رجالًا عظماء أسهموا في بناء الدولة وإدارة مؤسساتها في مختلف المجالات. أليس هذا دليلًا على انتصار العلم في الطائف.
” الطايف أشعار “الحميدي”(2) حلم “عواض”(3) اغتراب
“عبد الغني” (4) في شارع المثناة ياقف ويعدي”
هذا البيت من وجهة نظري من أجمل أبيات هذه القصيدة، وكل أبياتها جميلة، فالصورة مبتكرةٌ وموظفةٌ بوعيٍ من الشاعر. فالشاعر يصف الطائف بأنها “أشعار الحميدي”، واختيار الحميدي هنا لم يأتِ اعتباطا، فهو شاعر شعبي يكتب القصيدة الحداثية بحرفيةٍ عاليةٍ، وتميزٍ استثنائي، وفي قصائده تجد جمال الطائف ونبل إنسانها، ومعاناة شبابها بلغةٍ وإيحاءاتٍ رمزيةٍ مخدومةٍ. زد على ذلك أنَّ (الحميدي الثقفي) هذا شاعرٌ ثقفيٌ ينتسب إلى قبيلة ثقيف التي تمثل للطائف تاريخًا عبقًا في الجاهلية وفي الإسلام، ومن رجالات هذه القبيلة المشهورين بالإضافة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أشرت إليه مسبقًا، هناك محمد بن القاسم القائد العسكري البارع، فاتح بلاد الهند والسند وأجزاء من الصين في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك.
وإذا كان ابن الطائف (الحميدي) مبدعًا شعريًا، فإن للطائف ابن آخر مبدع شعريًا ونثريًا هو (عواض العصيمي)، والذي نجد في رواياته حضورا للحلم الوضاء المتقد الذي يحاول التغلب على المعيقات، وتجاوز العقبات.
و(عواض) هذا ينتمي إلى قبيلةٍ شهيرة ذات تاريخٍ عريقٍ تستوطن الطائف وغيرها، وهي قبيلة (هوازن)، وقد منحت هذه القبيلة مع قبيلة (ثقيف) للطائف مجدًا وعزًا في شتى المجالات منذ أن دخلت القبيلتان في الإسلام. والقبيلتان اليوم مع باقي القبائل والأهالي في الطائف يسهمون في بناء ملحمة الوطن بعطاء فياضٍ مثلما فعل أباءهم وأجدادهم من قبل.
وكما وظف السفياني ثنائيات (الكتابة والحديث) و (التاريخ والجغرافيا) و (العلم والجهل) نجده يوظف هنا (الشعر والنثر).
” اغتراب …..
“عبد الغني” (4) في شارع المثناة ياقف ويعدي”
عبد الغني شفاه الله وعافاه ابن آخر من أبناء الطائف، أدى به الإبداع إلى الانفصام، وعندما يجعله الشاعر فنارًا من فنارات الطائف، وعلمًا من معالمها، فهو يؤكد على الإبداع في الطائف، وما ينتاب المبدع، وما يعترضه من عوائق، ولعل الشاعر يخشى على (الحميدي) و (عواض) من اتقاد إبداعهما، وربما على نفسه هو أيضًا.
وأكتفي بهذا القدر احترامًا للأخ (عبد الغني)، وتقديرًا لوضعه الصحي شفاه الله وعافاه، رغم أنَّ في الجعبة المزيد.
و (المثناة) حيٌ طائفيٌ عريقٌ كان ذات زمن عبارةً عن عيون ماء فياضةٍ، وبساتين خضراء ذات بهجةٍ، ومسرحٍ للغناء والطرب والفن الأصيل، فتحولت إلى كتلٍ خرسانيةٍ، وطرقٍ أسفلتيه، مات فيها الفن والجمال والإنسان، وفي شوارع المثناة هذه يهيم الآن (عبد الغني) وقوفًا حينًا، وجريًا حينًا آخر، ربما بحثًا عن ذاته الحقيقية، وربما بحثًا عن إنسان الطائف القديم المفعم بحب الفن وعشق الجمال، وربما في انتظار حلم ما قد يأتي وقد لا يأتي.
وإذا كانت فيروز أيقونة لبنان، ونزار أيقونة الشام، فشاعرنا تعمد أن يجعل من (الحميدي) و (عواض) و (عبد الغني) مجتمعين أيقونة للطائف، وقد يكون السؤال مشروعا عن سبب عدم تطرق شاعرنا لطلال مداح، وعبد الله محمد، وطارق عبد الحكيم رحمهم الله وابتسام لطفي وغيرهم، وهم رموزٌ فنيةٌ طائفيةٌ صنعت مجد الأغنية السعودية. والسبب في ذلك أحسبه لا يختلف كثيرًا عن سبب تجاهل الشاعر للورد والرمان والعنب الطائفي.
ويمضي شاعرنا قدمًا في توصيف محبوبته ويذكرنا بأنها إحدى القريتين، في تناصٍ قرآني بديعٍ مع قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). وعليه فالطائف قريةٌ عظيمةٌ توازي مكة منذ غابر الزمان، ورجالها عظماء أيضًا.
والشاعر يشير هنا وللمرة الثانية لــــ (لكتاب) وكان قد أشار لــــ (الخطاب) فهما ثنائيتان موظفتان جيدًا داخل النصِّ مثل بقية الثنائيات التي أشرت إليها آنفا.
“منها، لها، فيها، بها عاش ألوفا بيت أجودي”
يؤكد الشاعر خصلة الوفاء في أهل الطائف للطائف الأرض، وللطائف الإنسان، وللطائف الضيف أو الزائر من خلال تصوير قيمة (الوفاء) بالبيت الكريم المُكْرَمِ الذي يعيش بالطائف. يخلع الشاعر على الوفاء صفة الإنسان، ويسكنه بيتا، ويعزز هذه المعاني أكثر باستخدام أكثر من حرف وظرف: “”منها، لها، فيها، بها”.
“الطائف أحلى ذاكرة كل المدن، مليون باب
يفتح لذاتك واتجاهاتك صباحِ سرمدي”
يذكر الشاعر المتلقي بأنَّ الطائف ذاكرةٌ لكل المدن، ففيها مثل ما في أيِّ مدينة في العالم من جمالٍ وسحرٍ وفتنةٍ وهذا تعميمٌ بعد تفصيلٍ تطرق إليه الشاعر في أول أبياته عندما قال عنها: ” شام الجهات”، مشيرا للأسطورة التي تحدثت عنها آنفًا، وربمَّا أتت تلك الأسطورة من خلال تشابهٍ راه الناس قديماً بين الطائف والشام، ولعل في الشبه بين ورد الطائف وورد الشام، بالإضافة إلى تشابه في حلاوة عنب المدينتين ما يشير إلى ذلك، بجانب اعتدال مناخهما صيفًا، وليست الشام المدينة الوحيدة التي تشبه الطائف، فهناك كثير غيرها، لذا فهي ذاكرة لكل المدن في نظر الشاعر.
أما حديث الشاعر عن الأبواب: “مليون باب” ففيه إلماحةٌ ذكية لأبواب الطائف التي اشتهرت بها قديمًا، وأعيد ترميمها حديثًا وهي: باب الريع وباب الحزم وباب ابن عباس، وكانت الطائف محاطة بسورٍ حمايةٍ ووقايةٍ عظيمٍ لا يتم الدخول إليها، أو الخروج منها إلا عبر تلك الأبواب في ذلك السور. وفي هذا الصدد قال الشاعر العربي قديمًا:
“منعنا أرضنا من كل حيٍ
كا امتنعت بطائفها ثقيف
أَتاهُم مَعشَرٌ كَي يَسلِبوهُم
فَحالَت دونَ ذلكُمُ السُيوفُ”
ولكن الشاعر عندما يلتقط دلالة الأبواب التاريخية هنا، إلا إنّه يتجاوز بها حدودها ووظيفتها وعددها، ويجعلها بدلًا من الثلاثة مليونًا، وأنَّ هذه (المليون باب) تفتح للذوات والاتجاهات / الآمال والطموحات/ أفاق المستقبل صباحات سرمدية لا ليل فيها، كناية عن فرص النجاح، وتعددها وتنوعها وديمومتها. فيا للجمال!
وكأني بالشاعر يقول: “عندما كانت للطائف ثلاثة أبواب فقط، كان لأهلها وزوراها شأنٌ ومجدٌ وعزةٌ ورفعةٌ، فما بالكم الآن وقد أصبح لها (رمزيًا) مليون بابٍ متفرقةٍ يدخل منها كل من ينشد نجاحًا، أو يروم تفوقًا، أو يرجو تحقيق حلم! وهنا نذكر القارئ الكريم بتطرق الشاعر سابقًا للرؤيا: “الطائف اللقيا أو الرؤيا دلع ريم وغدي”. أليست أيُّ رؤيا محتاجةً لأبوابٍ تنطلق منها، وأبواب تبلغها ماديةً ومعنويةً؟!
“الطائف أحلى حكمة الشيخ وفتوات الشباب
أشرت إلى توظيف الشاعر الحرفيِّ لدلالة الطفولة في نصِّه هذا، ونجده هنا يضيف إلى براءة الطفولة “حكمة الشيوخ وفتوات الشباب”، وهو بهذا يصور لنا الطائف بمراحل عمر الإنسان، ففي الطائف من الطفولة براءتها وجمالها واتساع أحلامها، وفيها من الشباب قوته وعطاؤه، وفيها من الشيخوخة حكمتها وبعد نظرها، وخبرتها.
والشاعر عندما يشبه الشاعر الطائف بمراحل عمر الإنسان، يستدرك بذكاءٍ احتمالية موتها، وذلك عندما يشير إلى أنَّ هذه المدينة تولد من جديد مع ولادة كل طفل بها، وذلك بربطه بين تاريخ مولده –هو نفسه- وتاريخ ميلاد الطائف.
” الطائف أحلى يوم مولدها تأرخ مولدي”
(الصمت في حرم الجمال جمالٌ) يبدو لي أن هذه الحكمة هي جزءٌ مما يريد أن يوصله لنا الشاعر من خلال شطر بيته:
“الطائف الصمت المبجل كلنا به نقتدي”
جمال الطائف الأخَّاذ، يعجز الألسنة، ويخرس الأفواه عن وصفه حق الوصف، ولذا فمن الحكمة اللياذ بالصمت.
وكما بدأ الشاعر نصَّه بسؤال قوي (من هي؟)، فهو يختمه بما يمكن أن يعتبر إجابةً قويةً أيضًا لذلك السؤال:
“في الضئ نبض حي يكتبني ويكتب موعدي”
فهي (الطائف) التي في ضيائها، ومنه تنبض عروق الشاعر بالحياة، وهي أيضًا من سيكتب موعده – بعد عمر طويل في طاعة الله – ذات يوم عندما يتوقف ذلك النبض.
ونلحظ توظيف الشاعر هنا مرة أخرى وأخيرة للثنائيات الحيوية، والتضادات الكونية، فبعد أن أشار إلى (مولده) في بيتٍ سابقٍ، يشير هنا إلى (موته).
وناسب أن تكون كلمة “موعدي” بمعنى “نهايتي” هي الكلمة التي أنهى بها الشاعر نصَّه، الذي لم ولن ينتهي جماله، ويبقى مفعمًا بالجمال، محملًا بالدهشة، باعثًا على السؤال، محرضًا على قراءاتٍ نقديةٍ عميقةٍ وجديدةٍ.
التعليقات 6
6 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
عبدالرشيد عبدالوهاب ساعاتي
05/03/2020 في 3:47 م[3] رابط التعليق
الله ..الله ..اباسعد شاعر الغدير وابنهاالاديب الغيور ..سلمت يمينك على ما نقلت وما قرائت وسلم الشاعر وقد تغنى ببعض اركان الجمال بهذا المصيف الرائع وهذا وعد مني ان اتغنى بها بالفصحى متى ما سنحت لي الفرصة فعروس المصايف بالنسبة لي حنين الماضي واشراقة المستقبل . فكم انا بشوق لتلك المرابع وكرم ومرؤة اهلها
(0)
(0)
غير معروف
05/03/2020 في 8:32 م[3] رابط التعليق
لله درك
قراءة جمعت بين الجمال والتاريخ والادب
(0)
(0)
غير معروف
05/03/2020 في 8:33 م[3] رابط التعليق
طرح متميز
(0)
(0)
غير معروف
05/03/2020 في 8:34 م[3] رابط التعليق
احسنت موضوع يستحق القراءة
(0)
(0)
غير معروف
05/03/2020 في 8:38 م[3] رابط التعليق
النقد الادبي وتسليط الضوء على أعلام الشعر وجمال المعالم توجه جميل ..اشكرك كاتبنا المتميز القرشي
(0)
(0)
غير معروف
07/03/2020 في 8:13 م[3] رابط التعليق
أجدت وأفدت أيها الناقد المميز
(0)
(0)