أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس، المسلمين بتقوى الله عز وجل، وشكره على نعمه الوافرة.
وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها في المسجد الحرام اليوم: في عصر علت فيه فتن الماديات، واستفحلت فيه علل الأفكار والشبهات، وأدلج فئام من الناس عقولهم سوء الوسن، ومدوا في ميادين الغواية كل رسن، وزين لهم سوء عملهم فرأوه كالحسن، وأهاجوا فتناً وخطوباً، ومعارك وحروباً، سالت فيها دماء، ومُزقت فيها أشلاء، وذهب فيها أبرياء، من أجل رأي علمي، أو اختلاف سائغ في اجتهاد فردي، وكل يدّعي محض الصواب، ويزعم أنه المحق بلا ارتياب، يوالي من أجل مشرب، ويعادي من أجل فكر أو مذهب، وهنا تبرز إشراقات هذا الدين، وعظيم خصائصه التي أبهرت العالمين؛ حيث كلأت الشريعة بعين أحكامها، وضمّخت برداع لطفها وحنانها، أواصر الألفة والتلاحم، والأخوة والتراحم، تلكم الأواصر الاجتماعية السامية، والوشائج الروحية والخلقية النامية، التي حثت عليها تعاليمه القاصدة، وأكدتها أحكامه ومقاصده، حتى في الاختلاف، وسد ذرائع الخلاف.
وأضاف: الاختلاف قد يكون محموداً، لأنه سنة من سنن الله الكونية، يقول سبحانه: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}، قال الحسن البصري: “ولذلك خلقهم: أي خلقهم للاختلاف”؛ لكن الخلاف هو الشر الذي يؤدي إلى النزاعات والخصومات، والفساد والإفساد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “من الفساد ما يسببه التفرق والاختلاف المخالف للإجماع والائتلاف؛ حتى يصير بعضهم يبغض بعضاً ويعاديه، ويحب بعضاً ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن، والهمز واللمز، وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح، وببعضهم إلى المجاهدة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله”، ويقول العلامة ابن القيم: “ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إراداتهم وأفهامهم، وقوى إدراكهم. ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله؛ لم يضر ذلك الاختلاف”.
وأردف “السديس” أن المتأمل في تاريخ الأمة الإسلامية يلحظ أن الغالب اشتغالها بالاختلاف فيما بين أفرادها في أزمنة الاسترخاء والترف الفكري، ويضمر حين تواجه الأمة خطراً محدقاً أو عدواً متربصاً؛ فتعود إلى الاشتغال بالمهمات والحرص على وحدة الصف الداخلي في مواجهة عدو خارجي مخالف في أصل الملة، وليس في مسألة أو مسائل أو اجتهادات، وليكن في الحسبان أنه لا ينبغي لمن ولج بنفسه فنظر في اختلاف الأمة الإسلامية أن يغفل أو يهمل التفرقة بين من خالف في مسألة أو مسائل باجتهاد يُعذر به، ومن خالف في أصول لا يسع المسلم جهلها أو مخالفتها.
وأوضح أن الأدلة الشرعية على أقسام أربعة؛ منها ما هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وهذا ليس محلاً للاختلاف وليس فيه اجتهاد ولا نظر، ومنها ما هو قطعي الثبوت ظني الدلالة، وآخر ظني الثبوت ظني الدلالة، وآخرها ظني الثبوت قطعي الدلالة.
وتابع بالقول: الثلاثة الأخيرة هي محل الاجتهاد المعتبر، وميدان تسابق العقول، وتباري الأذهان والقرائح، وموطن الاختلاف بالضوابط الشرعية التي تجمع ولا تفرق، وتقرب ولا تبعد؛ ويتسنم ذروة هذه الضوابط: تصحيح النية؛ فعلى من ينظر في اختلاف الأمة أن يكون قصده الوصول إلى الحق، مع تصحيح الخطأ وبيان الصواب، لا التشهير بالمخالف أو تنقصه، أو الظهور والشهرة والسمعة، والذي لا يستطيع ذلك فعليه التوقف ليسلم وتسلم الأمة؛ جلباً لمصلحة تضييق الاختلاف، يقول الإمام ابن تيمية: “وفي بلاد المشرق من سبب تسليط الله التتر؛ كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها، وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل، المتبعين للظن وما تهوى الأنفس، والمتبعين لأهوائهم بغير هدى من الله، مستحقون للذم والعقاب؛ فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين”.
وقال إمام وخطيب المسجد الحرام: ثاني هذه الضوابط: توطين النفس على الرجوع إلى الحق؛ فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وقد قال رجل لابن مسعود رضي الله عنه: أوصني بكلمات جوامع، فكان مما أوصاه به: “من أتاك بحق فاقبله منه، وإن كان بعيداً بغيضاً، ومن أتاك بالباطل فاردده، وإن كان قريباً حسيباً”، ويقول ابن القيم: “فعلى المسلم أن يتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قبول الحق ممن جاء به، من ولي وعدو، وحبيب وبغيض، وبر وفاجر، ويرد الباطل على من قاله كائناً من كان”.
وأشار إلى أن ثالث هذه الضوابط: التعامل مع الاختلاف على أنه أمر طبعي من طبيعة البشر، يقول الإمام الشاطبي: “فإن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالاً للظنون”، والخطأ في الاجتهاد وارد، والأخذ بالعذر معتبر بشرطه عند أهل السنة والجماعة، وأهل الحجى تضطغن في الرأي عقولهم ولا تضطغن صدورهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوّة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبقَ بين المسلمين عصمة ولا أخوة”.
وذكر الشيخ “السديس” أن رابع هذه الضوابط: مراعاة الأحوال والهيئات؛ حيث اتسعت رقعة العالم الإسلامي وتعددت مجتمعاته وتنوعت، ونشأ بسبب ذلك اختلاف في مناهج الاجتهاد وطرق الاستنباط؛ مما نتج عنه اختلاف في تفسير كثير من النصوص واختلاف أحكام النوازل، يقول ابن القيم: “والفتوى تتغير بتغير الزمان وتغير المكان والظروف والبيئات والأحوال”.
وأوضح أن خامس هذه الضوابط والآداب: الإنصاف مع المخالف؛ قال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله أن الله خبير بما تعملون}.
وقال “السديس”: سادسها أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد إلا إذا خالف نصاً صحيحاً، يقول الإمام ابن تيمية: “مسائل الاجتهاد مَن عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عَمِل به؛ وإلا قلد بعض العلماء الذين يُعتمد عليهم في بيان أرجح القولين”، ويقول أيضاً: “وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ؛ فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً”.
وأضاف أن سابع هذه الضوابط: التعامل مع الظاهر؛ لأن اقتحام النوايا وأعمال القلوب مما لا يجوز التعامل به؛ فإذا أظهر المخالف قولاً موافقاً قبلناه ولو ظننا أنه لا يعتقده؛ إلا إذا كان من معتقده، جواز الكذب أو وجوبه، فنقبل مع الحذر؛ فالإسلام إنما يعامل الناس في الدنيا بحسب ظواهرهم، وأما السرائر فأمرها إلى الله.
وأشار إلى أن ثامنها هو: الحذر من تزكية النفس؛ فإذا وقع اختلاف في مسألة؛ فلا يعتقدْ أحد أنه مصيب فيها صواباً لا يحتمل الخطأ، وأن مخالفه مخطئ خطأ لا يتحمل الصواب.
واستطرد قائلاً: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى}؛ فهل يعي المسلمون بعد أن سادت بينهم الفرقة والخلافات، وعمّتهم الشقاقات والمنازعات، هذه الآداب التي جاءت بها شريعتنا الإسلامية الغراء، وقال إن الخلاف في المسائل الفرعية لا يجب أن يكون مدعاة للنزاعات والانقسامات، والاتهامات والطعون في المقاصد والنيات؛ فنحن أحوج ما نكون اليوم إلى اجتماع القلوب، ووحدة الصفوف، والرجوع في كل أمرنا إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإلى أهل العلم العاملي.
واستشهد بقول الله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً}.
وقال الشيخ “السديس”: ما أجدر الأمة الإسلامية اليوم وهي تبحث عن مخرج لما بَلِيَت به من فتن وما مُنِيت به من مِحَن، أن تترسم خطى رسولها محمد صلى الله عليه وسلم في حسن الولاء وصدق الانتماء؛ فبلاد الإسلام عامة وبلاد الحرمين خاصة تتعرض هذه الأيام لحملات شعواء عبر قنوات فضائية ومواقع إلكترونية؛ مما يوجب على الجميع الوقوف صفاً واحداً في وجه تلك الفتن الهوجاء، والتصدي لكل من يحاول النيل من بلاد الإسلام أو أمن الحرمين الشريفين، وعلى شباب الأمة الفطناء ألا يغتروا وينخدعوا بهذه الشناعات المفسدة، وألا يركنوا لتلك الشائعات المغرضة؛ فليس وراءها إلا هدم المجتمع وتفككه وإخلال أمنه واستقراره.