تغدو الكتابة، في هذا المنجز القصصيّ، مرفأً لممارسة الحياة، نكايةً في النّسيان، معبراً إلى برّ أمان، لا يوجد في مساحة الحكي إلا على سبيل التّخيُّل. تصير الكتابة معادلاً للعيش، ونقيضاً للتّلاشي في زحمة المخاطر المتربّصة. كلّ الرواة- الشّخوص يمارسون حكيهم للإعلان، عبر قناة السّرد، عن أنهم ما يزالون على قيد الحياة، وأنهم ما ينفكّون يقاومون شراسة الأفضية والمصائر الصّعبة التي يكتبها عليهم فعل السّرد، على الأقلّ، على مستوى حكاية النّص.
الذات والمجال: الصّراع غير المتكافئ
تعكس مرآة المجموعة القصصيّة صراعاً قويّاً غير مُتكافئ، بين قوى الطبيعة وساكنة القرية الذين يعيشون، بالكاد، على معطيات المجال الصعب الذي يتحرّكون فيه. إذ يبدو الرّاوي- الشّخصيّة مهوُوساً بمضايق المجال الجُغرافيّ الوعر، واشتراطاته، بوصفه فضاءً ممتدّاً ومقيّداً بعتمة التّفاصيل، وبما يعتمره من وحوش ومتاعب ومخاطر تتهدّد حياة الكائن. وبقدر ما يمتدّ هذا المجال، تغرق ذوات الشّخوص في وحل المعاناة، وتتعفّن في وحشة اغترابها المتعدّد. يقول الراوي واصفاً هذا المجال الممتدّ: «كان السرح ممتداً، وتلتقي نهاياته الواضحة بالأفق، وباستثناء الأشجار الشوكية التي تنتصب معزولة عن بعضها، تنبطح تحتها ظلال قصيرة ونثار بعر يابس، فلا يوجد أثاث يُذَكر؛ حيث تنبو الصخور ذات الأغلفة الصفراء القاسية، وينام الغبار الذي لا يلبث أن يصاعد ثائراً، إثر أدنى لمسة من قدم أو حافر، وتسمق الجبال برؤوسها المسنَّنة التي أضاءتها شمس الصباح، وفي صدورها تنفتح جروف أزليّة، كأنما هي مخابئ للظلال، حيث ترى أعماقها مظلمة حتى في قيظ الظهيرة» (ص. 24).
يصوّر المتن ضياع الكائن البشريّ، برغم ما حقّقته له التّكنولوجيا من إمكانات تساعده على ارتياد الجغرافيات وقهر المسافات وترويض قوى الطبيعة، بنوع من السخرية القاتمة التي تعود، بالأذهان، إلى أزمنة غابرة، وتحيل هذه العملية الارتدادية الذاكرة إلى الزمن الأوّل؛ زمن سيادة المجال بشتّى طقوسه، على نكسة الإنسان الحالية التي تبدو أشدّ قتامة من كلّ النكسات التي عرفها تاريخه: فقد تلاشت قيم الإنسان، وما عادت التكنولوجيات المتطوِّرة ووسائل المواصلات والترف والرفاه سوى أدوات بشعة لتعميق غربة هذا الكائن الاجتماعي، بامتياز؛ فكلّما تقدّمت الاقتصاديات والآليات وسبل العيش، وتيسّرت إمكانات التحكَّم في الطبيعة وقواها، ارتدّت الرساميل الرمزية خطواتٍ إلى الخلف، وتقهقرت آفاق التواصل والاحتكاك الإيجابيين، ونكصت سبل التعاون والتكتّل والتحالف ضدّ مخاطر التوتُّر والتباعد والأنانية والبرغماتية وغيرها من القيم البديلة، التي تولّدت مع عولمة حارقة، تتَّسع بشكل رهيب.
لقد ذهب التصوير القصصيّ، في مجموعة «مرعى النجوم» الصّادرة عن منشورات مجلّة «نزوى»، في عددها الجديد (83)، إلى التّصوير الإيحائي البليغ الّذي يرُوم قراءة المؤشّرات في ظلّ سيّادة معكوسها، فبينما هناك مجتمعات ترفُل في ترف النّعم، نلفي مجتمعات، ما تزال تعيش عزلتها وسط مجالات ممتدّة، تغالب القهر، وتصارع اليوميّ من أجل أن تستمرّ في الحياة، ساعيّة إلى ممارسة طقوسها الحياتيّة المتوارثة وَفق نظام بيئيّ وثقافيّ معقّد جدّاً، وبإمكانيات ووسائل تقليدية متواضعة، محاصَرين بتكالب الموت والمرض والشدائد المضروبة حولهم من كلّ المناحي، يقول السّارد- الشخصية: «في قريتنا، لم تصل خطوط الكهرباء بعد؛ لذلك فإن أوّل ما نفعله مع قناني العصير الباردة، هو أن نتحسَّس درجة برودتها. وإذا كان الطقس حارّاً، فإن أوّل ما نفعله هو الاستفادة، قدر الإمكان، من تلك البرودة أو ما تبقّى منها، فأخفت زوجة أخي العلبة- بعد أن أفرغتها- تحت لفاعها، حيث صدرها المعروق، وألصقت ما تبقّى من برودتها بقلبها الخافق. وأنا ملَّست، بالعلبة الباردة، جبهتي ورقبتي المعروقة قبل أن أقذف بها» (ص. 32).
القصصي، والسِّيَري، والرّوائي
يتداخل في «مرعى النّجوم» مواد سردية تجمع البعدين: السِّيَري، والقصصي، بالروائي، بما أن الكاتب يمارس كلّ هذه الأنواع الأدبية بالتوازي، فهو قاصّ وروائي، ويفتح، داخل متونه، كوّاتٍ لعبور السِّيَري والإثنوّغرافي، وكلّ ما يتعلَّق بمتخيَّل الإنسان العماني، في علاقاته بالمكان (الصّحراء والجبال)، وبتحوُّلات أنماط الحياة في زمن لا يُساير وتيرة تطوّره.
تنطلق الكتابة السردية، في هاته المجموعة، ممّا هو جوّانيّ، حيث تَسَلُّطُ الأمكنة وجبروتُها، وتجذّر حالة اليتم القاسية على الذات، إلى ما هو مجاليّ متعلّق بالطبيعة الجغرافيّة الممتدّة، والملتفّة على الإنسان العمانيّ، طارحةً إشكال الصراع الأبديّ الحادّ الذي سوف يظلّ قائماً بين الإنسان والقوى المجالية، لينتقل الردّ، بعد ذلك، إلى معالجة قضايا كونيّة إنسانيّة تهمّ الأسئلة الملحاحة الّتي تواجه الخصوصيّة الإنسانيّة وهويّتها.
واستناداً إلى تضافر هذه المعطيات كلّها، داخل الذات، يجد السارد نفسه متحرِّراً من إشكال الهويّة الأجناسية، فتارةً يفرض عليه السِّيَري ذاته فرضاً، فيجنحُ إلى مقوّمات الكتابة الأوتوبيوغرافية، وتارةً تتماشى خصوصيّة المعالجة مع طبيعة السّرد القصصيّ، من حيثُ كثافتُه وشعريّتُه وعمقُه، وتارة ثالثة، ينساقُ الحكيُ خلف ظلال العالم الرّوائي، وما يتيحُه من آفاق شاسعة لاستدماج التفاصيل، واستدراج الشخوص نحو بوح أعمق، واستنفار لكل الإمكانات الذاتية، من أجل تغذية النصّ وإرواء عطشه. لقد كانت الأجناسُ السّرديّة، هُنا، تتحالفُ لخدمة طبيعة النصوص، بحسب حاجاتها التي تمليها الخصوصية وأسس المعالجة.
السّرد واحتمالية الرّؤيا
تستضمرُ الكتابة السّردية في «مرعى النّجوم» استعاراتٍ كبرى، تخبّئ وراءها قلق الذات، بما هو انشغال وجوديّ، وبما هو مطويّات جماليّة، تلفّ في بواطنها الخبيئة أسئلة الإنسان في علاقته بالكون، وتلك هي الرّؤيا المستبطنة لفعل الكتابة، حيث يعمد السّارد- انبثاقاً عن تبصّره الدّقيق بمتغيّرات الحياة، وتحوّلاتها، وصراعاتها الخفيّة والظّاهرة- إلى تمرير خطاب إلى المُتقبّل، وتجسير سبُل تصريف أسئلة الكينونة الّتي تثقل كاهل الذات، وتقضّ مضجعها، في بحث عمّا يقاسمها لوعتها، وهمّها اليوميّ.
ونلمسُ، في جوهر هاته الرّسالة المستضمرة، نقداً ناعماً ممزوجاً بمرارة وخيبة، لكلّ المظاهر السلبية التي يطفح بها الكون، خاصّة تلك المفارقات الصّارخة، والفوارق الطبقيّة، والتّهافت غير المبرَّر تجاه المادّيّات، والإقبال على استِعمال مُبتكرات التّكنولوجيا المُغرية، في غير محلّها، ممّا يعمّق تراجع القيم الأصيلة والعوائد التّقليديّة المشكّلة للرّأسمال الرّمزي للإنسان، ومُكتسباته القيميّة التي تراكمت عبر التّاريخ الحضاري الممتدّ.
وقد عبّر السّارد عن رُؤاه، بشكلٍ غير مُباشر، من خلال العودة إلى عمق الصحراء، لتوصيف طقوسها الراسخة، التي تظلّ قائمة رغم أنف التكنولوجيا، وشراسة الزحف العمراني والإسمنتي، وعنف الإنسان وبدائيّته المستخلصَين من ميولاته الجانحة إلى الأنانية وإرضاء الرغبات الحيوانية الأوّلية. يقول الراوي في هذا الصدد: «لأنه اعتاد، في حياته السابقة، على مسافات شاسعة، فإنه كان يشعر بالجدران الإسمنتية ووجومها القاسي أمام عينيه، وكأنها أقرب، بكثير، من مسافاتها الواضحة تلك، بل كان يهجسها، بكلّ ما تحضنه من حديد وصلابة، تلتصق جميعها حدبةً بين كاهلَيْه، وعليه أن يحملها وحيداً شارد الذهن، طوال ما تبقّى من حياته» (ص. 49).