أعادت دار الإفتاء المصرية نشر فتوى كانت قد أجابت عليها أمانة الفتوى بسؤال ورد لها فى عام 2007 حول مقال فى إحدى الجرائد الخاصة تناول التشكيك فى صحيح البخارى والطعن فى الصحابى الجليل أبى هريرة رضى الله عنه والبخارى صاحب الصحيح.
حيث أكدت الاطلاع على المقال المنوّه عنه فى الطلب والمرفق به والتأكد من صحة ما جاء فى الطلب وجدنا أن كاتب المقال فى الصحيفة المذكورة ذكر أنه نقل ما فى المقال من كتاب ملىء بالطعن فى الصحابى الجليل أبى هريرة – رضى الله تعالى عنه – وأنه تلقى هذا الكتاب من بعض أصدقائه، دون التوثق مما فيه، ودون أن يسأل عن الردود الكثيرة التى رد بها العلماء على هذا الكتاب قديما، وكأنه صادف أمرا يهواه، وقد تلخص ما نقله الكاتب فى عدة بنود:
– أشار أول المقال إلى مقال سابق عن وجود أحاديث موضوعة فى صحيح البخارى.
– ثم بدأ النقل عن الكتاب المشار إليه سلسلة من الطعون فى الصحابى الجليل أبى هريرة -رضى الله تعالى عنه- منها وصوله إلى خيبر لكونه مُعدَمًا فى الجاهلية؛ ليكون عالة على النبى – صلى الله عليه وآله وسلم-.
– ومنها عدم معرفة اسمه فى الجاهلية أو الإسلام، وقوله: يبدو أن الهرة ظلت تلازمه.
– ومنها أنه لا يُعلَم عن حياته شيئا، إلا أنه كان فقيرا مُعدَمًا أَجِيرًا لابنة غزوان، وأنه ظل أُمِّيًّا، ثم ذكر بعد ذلك أنه كان يرعى الغنم.
– ومنها ادعاؤه أنه وضع حديثا فى فضل جعفر بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه.
– ثم عودة منه إلى يوم خيبر وقصته مع أبان بن سعيد بن العاص وما تدل عليه، وأن النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يدافع عنه عند إهانة أبان له.
– انتقاله إلى المدينة، وذكر بعض الروايات الواردة فى جوعه، واستدلاله على أنه كان يسأل الناس إلحافا.
– ادعاؤه فراره فى غزوة مؤتة.
– ادعاؤه معرفته الطب، فيما نقله عن الثعالبى فى كتاب “ثمار القلوب فى المضاف والمنسوب”.
– ذكره قصة المضيرة – وهو نوع من الطعام- ليستدل بها على حبه للطعام وجبنه عن الحرب.
– ذكره حبه للمزاح، وقصته فى الخلافة ومزاحه للصبيان، وخلص إلى نتيجة عجيبة.
– ذكره بعث النبى – صلى الله عليه وآله وسلم – لأبى هريرة – رضى الله تعالى عنه- مع العلاء الحضرمى إلى المنذر بن ساوى، وادعاؤه أن ذلك نفى له.
– تولية عمر رضى الله تعالى له على البحرين فى العام الحادى والعشرين، ثم محاسبته على ماله، وادعاؤه أنه إنما أرسله لأنه من صغار الصحابة.
– ذكر أمر عمر -رضى الله تعالى عنه- له بعدم التحديث، وضربه له بالدِّرّة، وكان يقول بعد موت عمر: إنى لأتحدث بأحاديث لو تكلمت بها لشج عمر رأسى.
وينبغى التنبه إلى أن المقال – كأصله الذى ينقل منه الكاتب- لم يَتَحَرَّ صحة النقل، وإنما كثيرا ما ينقل من كتب الأدب، مثل النقل عن الزمخشرى فى “ربيع الأبرار” وابن أبى الحديد فى “شرح نهج البلاغة”، ولا يسوق إسناد القصة، مع أن الإسناد من الدين، وهو معيار الحكم على الروايات، وكثير من المصنفين فى الأدب ينقلون الروايات بلا إسناد من غير التفات منهم إلى صحتها أو ضعفها، هذا مع كون اللذين نقل عنهما معتزليَين والثانى منهما متهم بأنه رافضى أيضا.
ولذا فالرد على المتون التى يطعن بها الكاتب إنما هو على سبيل التنزل والتسليم بصحة الرواية. وينبغى التنبه أيضا أن الكاتب يأتى بالقصة ثم يردفها باستنتاج بعيد عجيب لا تدل عليه من قريب ولا بعيد، بل ويورده على سبيل القطع.
وقبل الرد التفصيلى ينبغى أن يُعلَم أن الصحابة كلهم عدول، وقد وَرَدَ تعديلهم فى عدة آيات من القرآن الكريم، منها قول الله تعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا?، وقوله سبحانه: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ?، والخطاب فيها للموجودين حينئذ كما فى “تدريب الراوى” 2/ 214.
وقد ورد فى كتب السنة -التى تلقتها الأمة بالقبول على مدى تاريخها الحافل، وبنى عليها العلماء فهمَهم لدين الإسلام- أبوابٌ عَقَدَها أهل العلم فى فضائل الصحابة عامة وفى فضائل بعض الصحابة خاصة، منها ما ورد فى الترمذى عن فضائل أبى هريرة رضى الله تعالى عنه: ((أَتَيتُ النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- بتَمَراتٍ، فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ادعُ اللَّهَ فيهِنّ بالبَرَكةِ. فضَمَّهنّ ثُم دَعا لِى فيهنّ بالبَرَكةِ فقال لى: خُذهنّ واجعَلهنّ فى مِزوَدِكَ هذا -أو فى هذا المِزوَدِ – كلما أَرَدتَ أن تَأخُذَ مِنه شيئا فأَدخِل فيه يَدَكَ فخُذهُ ولا تَنثُرهُ نَثرًا)). فقد حَمَلتُ مِن ذلكَ التَّمرِ كذا وكذا مِن وَسقٍ فى سَبِيلِ اللَّهِ، فكُنّا نَأكُلُ مِنه ونُطعِمُ، وكان لا يُفارِقُ حقوِى حتى كان يَومُ قَتلِ عُثمانَ فإنّه انقَطَعَ. قال الترمذى: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وفيه أيضا: “جاء رَجُلٌ إلى طَلحةَ بنِ عُبَيدِ اللَّهِ فقال: يا أبا محمدٍ، أَرَأَيتَ هذا اليَمانِى – يَعنِى أبا هُرَيرةَ – هو أَعلَم بحَدِيثِ رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- مِنكم نَسمَعُ مِنه ما لا نَسمَعُ مِنكم -أو: يَقُولُ على رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- ما لم يَقُل؟ قال: أَمّا أن يَكُونَ سَمِعَ مِن رسولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وآله وسلم- ما لم نَسمَع فلا أَشُكُّ إلا أَنّه سَمِعَ مِن رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- ما لم نَسمَع؛ وذاكَ أَنّه كان مِسكِينًا لا شَىءَ له، ضَيفًا لرسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- يَدُه مع يَدِ رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- وكُنّا نحن أَهلَ بُيُوتاتٍ وغِنًى، وكُنّا نأتِى رسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- طَرَفَى النَّهارِ فلا نَشُكُّ إلا أَنّه سَمِعَ مِن رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- ما لم نَسمَع، ولا نَجِدُ أَحَدًا فيه خَيرٌ يَقُولُ على رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- ما لم يَقُل”.
قال الترمذى: هذا حديث حسن غريب. وفيه أيضا عن ابن عمر -رضى الله تعالى عنهما- إنه قال لأبى هريرة رضى الله تعالى عنه: “يا أبا هريرة، أنت كنت ألزمنا لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- وأحفظنا لحديثه…”. قال الترمذى: هذا حديث حسن. وفيه كذلك عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه: ((قلت: يا رسول الله، أسمع منك أشياء فلا أحفظها. قال: ابسط رداءك. فبسطت، فحدث حديثًا كثيرًا فما نسيت شيئًا حدثنى به)). قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح.
وفى “تحفة الأحوذى”: قال صاحب “السعاية شرح شرح الوقاية” – وهو من العلماء الحنفية – ما لفظه: “كون أبى هريرة غير فقيه غير صحيح، بل الصحيح أنه من الفقهاء الذين كانوا يفتون فى زمان النبى – صلى الله عليه وآله وسلم – كما صرح به ابن الهمام فى “تحرير الأصول” وابن حجر فى الإصابة فى أحوال الصحابة” انتهى.
وفى بعض حواشى “نور الأنوار” أن أبا هريرة كان فقيهًا، صرح به ابن الهمام فى “التحرير”، كيف وهو لا يعمل بفتوى غيره، وكان يفتى بزمن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم – وكان يعارض أجلة الصحابة كابن عباس فإنه قال: إن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين فرده أبو هريرة وأفتى بأن عدتها وضع الحمل، كذا قيل. انتهى.
قلت: كان أبو هريرة – رضى الله تعالى عنه – من فقهاء الصحابة ومن كبار أئمة الفتوى، قال الحافظ الذهبى فى “تذكرة الحفاظ”: “أبو هريرة الدوسى اليمانى الحافظ الفقيه صاحب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – كان من أوعية العلم ومن كبار أئمة الفتوى مع الجلالة والعبادة والتواضع”. انتهى.
وقال الحافظ ابن القيم فى إعلام الموقعين: “ثم قام بالفتوى بعد رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- برك الإسلام وعصابة الإيمان وعسكر القرآن وجند الرحمن، أولئك أصحابه – صلى الله عليه وآله وسلم- وكانوا بين مكثر منها ومقل ومتوسط، وكان المكثرون منهم سبعةً: عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب، وعبد الله بن مسعود وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، والمتوسطون منهم فيما روى عنهم من الفتيا: أبو بكر الصديق وأم سلمة، وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدرى وأبو هريرة… إلخ.
فلا شك فى أن أبا هريرة – رضى الله تعالى عنه – كان فقيهًا من فقهاء الصحابة ومن كبار أئمة الفتوى”. أهـ.
وقد وردت الأحاديث بالنهى عن سب الصحابة – رضى الله تعالى عنهم – فعن أبى سعيد قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تسبوا أحدًا من أصحابى، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)). أخرجه البخارى ومسلم.
وورد من طرق عن النبى – صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سب أصحابى فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)). ومعلوم أن اللعن من علامات الكبائر.
وقد روى أحمد فى مسنده والترمذى – وقال: حسن غريب – عن عبد الله بن مغفل – رضى الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله تعالى عليه وآله وسلم-: ((الله الله فى أصحابى، الله الله فى أصحابى، لا تتخذوهم غرضًا بعدى، فمن أحبهم فبحبى أحبهم، ومن أبغضهم فببغضى أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله عز وجل، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه.
كما أنه ليس من التوقير الذى أُمرنا به للنبى -صلى الله عليه وآله وسلم- أن نجرح أصحابه، خاصة بما لا يثبت.
قال القاضى عياض: ومن توقيره وبره -صلى الله عليه وآله وسلم- توقير أصحابه وبرهم ومعرفة حقهم والاقتداء بهم وحسن الثناء عليهم، والاستغفار لهم والإمساك عما شجر بينهم، ومعاداة من عاداهم والإضراب عن أخبار المؤرخين وجهلة الرواة وضلال الشيعة والمبتدعين القادحة فى أحد منهم، وأن يلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات، ويخرج لهم أصوب المخارج؛ إذ هم أهل ذلك، ولا يُذكَر أحد منهم بسوء، ولا يغمص عليه أمر، بل تُذكَر حسناتُهم وفضائلهم وحميد سيرهم، ويُسكَت عما وراء ذلك. “الشفا” 2/ 53.
وقال الإمام الغزالى: “اعلم أن كتاب الله مشتمل على الثناء على المهاجرين والأنصار، وتواترت الأخبار بتزكية النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- إياهم بألفاظ مختلفة. وما من واحد إلا وورد عليه ثناء خاص فى حقه يطول نقله، فينبغى أن تَستَصحِب هذا الاعتقادَ فى حقهم ولا تُسىء الظن بهم كما يحكى عن أحوال تخالف مقتضى حسن الظن، فأكثر ما يُنقَل مخترَع بالتعصب فى حقهم ولا أصل له، وما ثبت نقله فالتأويل مُتَطَرِّق إليه، ولم يَجُز ما لا يتسع العقلُ لتجويز الخطأِ والسهو فيه، وحَملُ أفعالهم على قصد الخير وإن لم يصيبوه”. “الاقتصاد فى الاعتقاد” ص79.
ويقول الغزالى أيضا فى “الإحياء” فى الكلام على ما يجب على المسلم اعتقاده: “وأن يحسن الظن بجميع الصحابة ويثنى عليهم كما أثنى الله عز وجل ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- عليهم أجمعين، فكل ذلك مما وردت به الأخبار وشهدت به الآثار، فمن اعتقد جميع ذلك موقنًا به كان من أهل الحق وعصابة السنة، وفارق رهط الضلال وحزب البدعة”. اهـ.
هذا عن الصحابة عامة، أما الكلام عن أبى هريرة – رضى الله تعالى عنه- خاصة فقد قال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح: “وإنما يَتَكَّلم فى أبى هريرة لدفع أخباره مَن قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معانى الأخبار، إما معطل جهمى يسمع أخباره التى يرونها خلاف مذهبهم الذى هو كفر، فيشتمون أبا هريرة، ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه تمويها على الرِّعاء والسفل أن أخباره لا تثبت بها الحجة، وإما خارجى يرى السيف على أمة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام، إذا سمع أخبار أبى هريرة -رضى الله عنه- عن النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- خلاف مذهبهم الذى هو ضلال لم يجد حيلة فى دفع أخباره بحجة وبرهان كان مفزعه الوقيعة فى أبى هريرة، أو قدرى اعتزل الإسلام وأهله وكفّر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التى قدرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها، إذا نظر إلى أخبار أبى هريرة التى قد رواها عن النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- فى إثبات القدر لم يجد بحجة يريد صحة مقالته التى هى كفر وشرك، كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبى هريرة لا يجوز الاحتجاج بها، أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانه إذا سمع أخبار أبى هريرة فيما يخالف مذهب مَن قد اجتبى مذهبه وأخباره تقليدًا بلا حجة ولا برهان تكلم فى أبى هريرة ودفع أخباره التى تخالف مذهبه، ويحتج بأخباره على مخالفته إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه، وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبى هريرة أخبارا لم يفهموا معناها”. اهـ. نقله عنه الحاكم فى المستدرك 3/ 586.
أما الحكم الفقهى فى ذلك: فلا خِلافَ بين العُلَماءِ فى أنه يَحرُمُ سَبُّ الصَّحابةِ -رضوان الله عليهم- لقَولِه -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((لا تَسُبُّوا أَصحابِى، فلو أن أَحَدَكم أَنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهم ولا نَصِيفَهُ)). فذَهَبَ جُمهُورُ العُلَماءِ إلى أنّه فاسِقٌ، ومِنهم مَن يُكَفِّرُه.
وقال ابن حجر الهيتمي: “وقد صَرَّحَ الشَّيخان وغيرُهما أن سَبَّ الصَّحابةِ كَبِيرةٌ، قال الجَلالُ البلقينيُّ: وهو داخِلٌ تحتَ مُفارَقةِ الجَماعةِ، وهو الابتِداعُ المَدلُولُ عليه بتَركِ السُّنّةِ، فمَن سَبَّ الصَّحابةَ -رضى الله عنهم- أَتى كَبِيرةً بلا نِزاعٍ”. “الزواجر” 3/ 332.
وقال ابن تيمية: “وأما مَن سَبَّهم سبًّا لا يقدح فى عدالتهم ولا فى دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك، فهذا هو الذى يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام مَن لم يكفرهم من أهل العلم”. “الصارم المسلول” ص590.
وقد عقد الخطيب البغدادى فصلا فى كتابه “الكفاية” ص46- 49، ذكر فيه بعض النصوص الدالة على عدالة الصحابة، ثم ختم الباب بما أخرجه بسنده عن الإمام أبى زُرعة الرازى -وهو من كبار المحدثين- قال: إذا رأيتَ الرجلَ ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فاعلم أنه زِنديق، وذلك أن الرسولَ -صلى الله عليه وآله وسلم- عندنا حق، والقرآنَ حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وإنما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليبطلوا الكتابَ والسنةَ، والجرحُ بهم أولى، وهم زنادقة. اهـ.
وأما مجمل الرد التفصيلى على ادعاءات الكاتب والرد عليها، فهى:
– أما تعييره بالفقر، فمِن عَظِيمِ احتِرامِ الفُقَراءِ ولا سيما فُقَراء الصَّحابةِ الذين استبَقُوا إلى الإيمانِ قولُه تعالى لنَبِيِّه – صلى الله عليه وآله وسلم -: ?وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ?، ومِن ثَمّ كان -صلى الله عليه وآله وسلم- يُعَظِّمُ الفُقَراءَ ويُكرِمُهم ولا سيما أَهل الصُّفّةِ، وهم فُقَراءُ المُهاجِرِين معَهُ -صلى الله عليه وآله وسلم- الذين كانوا فى صُفّةِ المَسجِدِ مُلازِمِين لها يَنضَمُّ إليها كُلُّ مَن هاجَرَ إلى أن كَثُرُوا، وكانوا على غايةٍ مِن الفَقرِ والصَّبرِ، وقد اهتم بهم الحافظ أبو نُعيم فى أول كتابه “حلية الأولياء”.
– وأما تعييره بأنه كان يرعى الغنم، فهذا ممدحة له؛ لقول النبى -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((ما بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلا رَعى الغَنَمَ. فقال أَصحابُه: وأنت؟ فقال: نعم، كُنتُ أَرعاها على قَرارِيطَ لأَهلِ مَكّةَ)). أخرجه البخارى. لأنها ترقق القلب، وتؤهل القائم بها لحسن الرفق بالرعية. وهذا ما حدث معه حين كان أميرا على المدينة، كما سيأتى.
– وأما دعواه أنه أُهِين فى النقاش بعد غزوة حنين، فالأمر كان سجالا بين أبان وأبى هريرة، فلم يتكلم فيه أبان إلا بعد أن قال عنه أبو هريرة: هذا قاتل ابن قَوقَل -أحد الصحابة وكان ذلك فى غزوة أحد- ولم يكن بسبب طلب الغنيمة، أما طلب الغنيمة فقد اختلفت فيه الروايات، فبعضها بين أنه أبو هريرة، وبعضها بين أنه أبان، وجمع بينهما الحافظ ابن حجر بأن كليهما طلب، وكلاهما لم يعط شيئا. فلماذا يُعَرِّض بأبى هريرة دون أبان، كما أن طلب المرء الغنيمة ظنا منه أن له حقًّا فيها لا يعيبه، وقد اختلف الشباب والشيوخ من أهل بدر فى الغنيمة حتى أنزل الله تعالى قوله: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?، وأهل بدر مِن أفاضل الصحابة.
– وأما ادعاؤه أنه أسلم من أجل الطعام، فهو وقوع منه فى إخلاص الصحابة الكرام، وطعن منه فى صدقهم وحُسن إسلامهم، وهذا من سوء أدبه وقلة حيائه، ومعلوم أن ترك الأوطان للذهاب إلى رجل رَمَته العربُ كلها عن قوس واحدة ليس بالأمر الهين، بل هو من عزم الأمور.
– أما التعيير بأنه لا يُعرَف اسمُه وإنما يعرف بكنيته، فهذا لا شىء فيه، وكم من الصحابة والعلماء بعدهم من لا تعرف أسماؤهم بل يعرفون بكناهم أو ألقابهم، أو على الأقل اشتهروا بذلك بحيث إذا ذُكِرُوا بأسمائهم لم يُعرَفوا، وكتب التراجم والمصطلح خير شاهد. على أن الحافظ ابن حجر قد ذكر فى “الإصابة” أن الخلاف مرده إلى ثلاثة أسماء فقط من جهة صحة النقل.
– أما تعييره بأن القطة كانت تلازمه، فهذا يدل على الغفلة والجهل من الكاتب واختلال الموازين عنده؛ حيث عدَّ الرحمة عيبًا وتهمة، والإسلام لم يجعل الاهتمام بالحيوان والرحمة به عيبًا، وهذا أمر لا يُنكِره عاقل.
والصحيح فى ذلك ما روى عنه ذلك الترمذى وحسنه فيما يحكيه عن أيام صِغَرِه: “كُنتُ أَرعى غَنَمَ أَهلِى، فكانت لى هُرَيرةٌ صَغِيرةٌ، فكُنتُ أَضَعُها باللَّيلِ فى شَجَرةٍ فإذا كان النَّهارُ ذَهَبتُ بها معى فلَعِبتُ بها، فكَنونِى أَبَا هُرَيرةَ”، أما غير ذلك فلا يصح، وقد كان النبى -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- ربما ناداه بكنيته هذه؛ مدحا له ورحمة به وحنانًا.
– أما تعييره بكونه أميًّا، فهذا شأن العرب كافة بنص القرآن، ومعظم الصحابة كانوا كذلك، بل أن الترمذى يروى عن أبى هريرة -رضى الله تعالى عنه- فى سننه حديثًا يقول عنه: إنه حسن صحيح: “ليس أَحَدٌ أَكثَرَ حَدِيثًا عن رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- مِنِّى إلا عبدَ اللَّهِ بنَ عَمرٍو؛ فإنّه كان يَكتُبُ وكنتُ لا أَكتُبُ”.
– أما ادعاؤه أن عمر استعمله على البحرين لأنه من صغار الصحابة، وأنه حاسبه على ماله وضربه. فالجواب أن عمر -رضى الله تعالى عنه- لم يكن يولى إلا الصالحين، وأنه لم يشتد على أبى هريرة -رضى الله تعالى عنه- تخوينًا له، وإنما هو اجتهاد من كليهما فى أمر المال، والدليل على ذلك أن عمر عرض على أبى هريرة أن يعمل له بعد ذلك فأبى عليه ذلك -كما فى “الاستيعاب”- وهذا يدل على نفسٍ أَبِيّة.
والدليل على أن تلك الشدة لم تكن لشخص أبى هريرة أنها كانت فى عمر عامة وهذا مشهور عنه، ويكفينا فى هذه العجالة قصة معاذ حين ركبته الديون نتيجة سخائه وجوده، فأرسله النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى اليمن ليجبره بالمال، وحين عاد معاذ إلى المدينة شدد عليه عمر أيضا حتى تدخل الصديق وكان هو الخليفة.
ثم بعد ذلك حين تولى عمر الخلافة ومات أبو عبيدة والى الشام، وَلّى عمر معاذًا على الشام، فلو كان التشديد على الولاة تخوينًا لهم ما وَلّى معاذًا على الشام بعد ما كان منه ما كان أيام أبى بكر.
– أما تعييره بأنه كان أجيرًا لابنة غزوان على ملء بطنه فعجب، فكفى بالأجير فخرًا أن كليم الله موسى -عليه السلام- قد عمل أجيرا، كما قال الله تعالى: ?قَالَ إِنِّى أُرِيدُ أن أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى هَاتَيْنِ عَلَى أن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ?. وننقل نص القصة من “الإصابة” للحافظ ابن حجر للأهمية، يقول الحافظ: “وفى الحلية من تاريخ أبى العباس السرّاج بسند صحيح عن مُضارب بن حَزن: كنتُ أسير من الليل فإذا رجل يُكَبِّر، فلحقتُه فقلتُ: ما هذا؟ قال: أُكثِرُ شكرَ الله على أن كنتُ أجيرًا لبُسرة بنت غَزوان لنفقة رحلى وطعام بطنى، فإذا ركبوا سقتُ بهم وإذا نزلوا خدمتُهم، فزوَّجنيها اللهُ، فأنا أركب وإذا نزلتُ خُدِمتُ”. اهـ.
فانظر إلى تواضعه وإخباته واعترافه بفضل الله عليه، ولم يفعل فعل المتكبرين الجاحدين.
– أما ادعاؤه بأنه وضع حديثًا فى فضل جعفر لأنه كان يحسن إليه، فيدل على جهل عظيم؛ لأن أبا هريرة لم ينسب ذلك للنبى -صلى الله عليه وآله وسلم- وإنما هو رأى ارتآه كغيره من الصحابة، وإنما أوقع الكاتبَ فى ذلك عدمُ معرفته الفرقَ بين الحديث المرفوع والحديث الموقوف. ثم يأتى بعد ذلك ليتكلم فى أبى هريرة والبخارى.
– أما ذكره قصة فى جوعه وتعرضه لسؤال عمر عن معنى آية، تعرضا لطعام، ففيه مؤاخذات؛ أنه عمم ذلك حتى جعله دَيدَنًا له، ثم أن أبا هريرة لم يسأل الطعام إنما هو تعرض مع العفة، وهو مباح خاصة لمن عضه الجوع، وإما نسبة الضيق مِن عمر فمِن كيسه، بل الصواب أن عمر إما لم يفهم، وهذا جائز، وإما أنه لم يكن عنده ما يطعمه فاستحيا من التصريح بذلك، وهذا ليس مستغربا؛ بل هذا قد حدث لعمر وأبى بكر -رضى الله تعالى عنهما- بل ولخير خلق الله تعالى رسول الله -صلى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلم- كما فى حديث مسلم: ((خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- ذاتَ يومٍ -أو لَيلةٍ- فإذا هو بأبى بكرٍ وعمرَ فقال: ما أَخرَجَكما مِن بُيُوتِكما هذه السّاعةَ؟ قالا: الجُوعُ يا رسولَ اللَّهِ. قال: وأنا والذى نَفسِى بيَدِه لأَخرَجَنِى الذى أَخرَجَكما، قُومُوا، فقامُوا معه فأَتى رَجُلا مِن الأَنصارِ)). فذكر الحديث. فماذا يقول الكاتب فى هذا؟
–
أما قصة إرساله مع العلاء الحضرمى لدعوة المنذر بن ساوى إلى الإسلام، فلا يستنبط منها إلا الفضل لصاحبها، فأما إرساله مع وفد بهذه الأهمية فيدل على الثقة، وأما وصيته للأمير به خيرا فتأكيد أنه يحبه لا العكس، واختيار أبى هريرة للأذان هناك يدل على فضيلته. وقد حدث إرسال كثير من الصحابة مثل معاذ وخالد وعلى وأبى موسى، فمن أين يخصص الكاتب واحدا منهم بنية النفى. ولو أراد النبى – صلى الله عليه وآله وسلم – نفيَه لفعل كما نفى الحَكَم بن أبى العاص إلى الطائف، مع كونه أشدَّ من أبى هريرة قوةً وأكثرَ جَمعًا. وقصة النفى للحَكَم ثابتة فى “الإصابة” وغيرها من كتب التراجم.
– أما كثرة مِزاحه، فالأصل فى المزاح أنه مباح، وقصة مزاحه مع الصبيان تدل على فضله؛ لأنه لم يفعل ذلك إلا وهو أمير على المدينة، وهذا يدل على عظيم تواضعه وطِيب مَعشره. وأصل مداعبة الصبيان وارد فى السنة فى حديث مداعبة النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- لأحدهم حين مات عصفوره فقال له: ((يا أبا عُمَير ما فَعَل النُّغَير؟)) وكان -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- يمزح ولا يقول إلا حقًّا.
– أما القول بأنه يدعى معرفة الطب، فلم يأت عنه إلا بقول واحد، وذلك أخص من الدعوى، كما أن للشخص أن ينقل كلام أهل الطب من ثقافة عصره ولا حرج فى ذلك. هذا بفرض ثبوت ذلك عنه.
– أما عن فراره يوم مؤتة، فأمر عجيب، فإن المعروف أن الجيش الإسلامى كاملا انسحب بحيلة ذكية من خالد بن الوليد بعد معركة شرسة، فإن كان الكاتب يرى ذلك فرارا فلماذا يخص أبا هريرة دون سائر الجيش بهذا؟
– أما نقله أنه كان فى أيام صِفِّين يصلى خلف الإمام على -عليه السلام- ويجلس على مائدة معاوية فيأكل معه، ولما سئل عن ذلك أجاب: مضيرة معاوية أدسم، والصلاة خلف على أفضل وأتمّ، ولذا اشتهر بشيخ المضيرة، وأنه اعتزل القتال مع الفريقين، فهذه قصة توجد فى بعض كتب الأدب من غير إسناد، وذكرها الزمخشرى فى “ربيع الأبرار” وابن أبى الحديد فى “شرح نهج البلاغة” وهما ينقلان من الروايات ما يوافق مذهبيهما ولو بلا إسناد، كما أنه لم يشتهر بهذا إلا عند أصحاب الأهواء، ولئن سلمنا بصحة القصة جدلا فليس فيها نقيصة له عند التدبر والإنصاف، أما تنقله بين الفريقين أثناء الحرب فهذا يدل على (أنه) كان أهل ثقة منهما؛ فلم يخش أحدٌ من الفريقين تجسسه لحساب الفريق الآخر.
وأما قوله: “إن الصلاة مع على أتم” على مائدة معاوية فيدل على قوة الشخصية وصدعه بالحق، ولو أنه كان يريد الطعام لَداهَن فى ذلك، مع كونه قد صار غنيًّا فى ذلك الوقت؛ لما قدمنا من قصته من سفره إلى البحرين أيام النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم أيام عمر رضى الله عنه.
-أما اعتزاله القتال فلا يدل على الجبن، بل يدل على أنه اختار التوقف عن القتال مع أحد الفريقين، وهذا قد فعله كثير من الصحابة، منهم عبد الله بن عمر وسعد بن أبى وقاص وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة.
– أما نقله أن عمر منعه من التحديث، وقوله أنه يحدث بأحاديث لو سمعها عمر لشج رأسه، فالجواب أن هذه القصة لا تصح، وإنما توجد فى مثل كتاب ابن أبى الحديد المعتزلى الرافضى، ولو فرضنا صحتها جدلا، فالمعروف أن تشدد عمر فى منع التحديث كان مع الصحابة كافة، وقصته مع أبى موسى فى حديث الاستئذان فى صحيح مسلم مشهورة، فلمَ يُلصَق الأمر دائما بأبى هريرة خاصة. ولو صح لكان محمولا على الأحاديث الواردة فى الرُّخَص أو الفتن مما ينبغى التنبه إلى الحكمة فى روايتها.
– أما ما أشار إليه فى أول المقال بأنه أزاح الستار عن الإمام البخارى وصحيحه، فالإمام البخارى هو إمام المحدثين وكتابه الصحيح هو أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، كما هو منصوص عليه فى كتب المصطلح، وشرط البخارى فى الصحيح فى الاحتياط فى الرواية مشهور بين أهل العلم
أما الطعن فى صحيحه من أجل بعض الأحاديث التى لا تدركها بعض عقول هؤلاء فلا يغير فى حقيقة الأمر شيئا، والرد على ذلك ما رد به إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة فى كلامه المتقدم فى دفاعه عن أبى هريرة -رضى الله تعالى عنه-.
ومما تقدم وفى واقعة السؤال، فإن المتكلم فى الصحابة فاسق مردود الشهادة، وكذلك المتكلم فى البخاري؛ لأنه يتكلم فى دين الله بغير علم، ولأن مَن يطعن فى أئمة نَقَلة الحديث من الصحابة ومَن بعدهم، فكأنما يريد أن تنحصر الشريعة فى العصر الأول دون الاسترسال فى سائر الأعصار، وهو مسبوق بمن سلك هذا الطريق فكان أن آل إلى مزبلة التاريخ، ومَن كان كذلك فحقه التعزير، فإذا كان الشرع والقانون يعاقبان مروجى الشائعات لنشرهم الفزع بين الناس ولبَثِّهم الاضطراب بينهم، فعقوبة مزعزعى عقائد المسلمين ومروجى الكذب والزور فى حق ثوابت دينهم وشعاراته أولى وأجدر. فحرى بمن يبيع دينَه بدنياه -بل ربما بدنيا غيره- وجدير بمن يريد أن يشتهر على حساب أصول الدين ومرتكزاته ألا تأخذنا فى عقابه والأخذ على يديه لومة لائم؛ ليكون نكالا لغيره ممَّن تسول له نفسه زعزعة السلام الاجتماعى للمجتمع، فالفتنة نائمة لعن الله مَن أيقظها.